بعد انتخابات بدت نادرة من نوعها في إفريقيا، إذ لم تتخللها أحداث عنف أو قتل... أُعلن في رواندا يوم الأربعاء الماضي فوز الرئيس المنتهية ولايته بول كاجامي بولاية رئاسية جديدة. ووفقاً لبيان اللجنة الرواندية للانتخابات، فإن كاجامي فاز بنسبة 93 في المئة من أصوات الناخبين في الاقتراع الرئاسي، وحصل على 4.63 مليون صوت، في ظل مشاركة تجاوزت نسبتها 97 في المئة. وقد مثّل المعارضة الرواندية في انتخابات الاثنين الماضي، والتي اعتبرتها "مهزلة انتخابية"، ثلاثة مرشحين ينتمون إلى أحزاب كانت داعمة لكاجامي في انتخابات عام 2003، وهي الانتخابات الرئاسية الأولى من نوعها في البلاد، وقد فاز فيها كاجامي بأغلبية واسعة (97 في المئة) بعد أن استطاع إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد، وحقق نتائج اقتصادية وصفت بالجيدة... حتى بات بعض المستثمرين يصفون رواندا اليوم بـ"سويسرا إفريقيا". وظل كاجامي "رجل رواندا القوي" منذ عودته إلى كيجالي في عام 1994، عقب أحداث التطهير العرقي التي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص. وهو أحد مواليد عام 1957، في الإقليم الجنوبي (مقاطعة جيتاراما سابقاً)، لكنه غادر البلاد مع أسرته في سن الرابعة (عام 1961) بعد الاضطهاد الذي تعرض له التوتسي عقب الثورة الرواندية عام 1959، حيث أقامت عائلته في أوغندا، وهناك تلقى دراسته الثانوية حتى عام 1976. وفي سن الثانية والعشرين التحق بتنظيم "المقاومة الأوغندية المسلحة" بقيادة يوري موسفيني، القادم من تنزانيا والمدعوم سياسياً ومالياً وتسليحياً من الولايات المتحدة، للإطاحة بنظام عيدي أمين. وبعد الانقلاب العسكري الذي أوصل موسفيني إلى السلطة في أوغندا عام 1986، أصبح العديد من رفاق سلاحه الروانديين ضباطاً في الجيش الأوغندي، ومنهم كجامي الذي شغل منصب نائب مدير الاستخبارات العسكرية في القوات المسلحة الأوغندية، ليواصل حياته في كامبالا، حيث تزوج في عام 1989 بـ"جينيت نويرامونجي"، وهي ابنة لإحدى العائلات الرواندية اللاجئة في العاصمة الأوغندية، ولهما اليوم أربعة أبناء. ثم تم ابتعاثه إلى الولايات المتحدة لتلقي دورة تدريبية في قيادة الأركان، وذلك في "فورت ليفن وورث" في كانساس. وبعد يومين على إعلان قيام "الجبهة الوطنية الرواندية" في أكتوبر 1990، في كامبالا، اغتيل قائدها "فريد رويجيما" في ظروف غامضة، فاقترح موسفيني اسم مدير استخباراته العسكرية كاجامي، والصديق القديم لـ"رويجيما"، لتولي مهمة التحقيق في الحادث ولتسوية الأزمة داخل "الجبهة الوطنية الرواندية"، لكن سرعان ما اشتهر اسم كجامي على المسرح الدولي عقب توليه قيادة الجبهة. فقد عمل على تقوية أذرعها المسلحة، وأطلق عمليات عسكرية من داخل الأراضي الرواندية، بالتوازي مع المفاوضات السلمية التي أفضت إلى اتفاق "أروشا" بتنزانيا، في أغسطس 1993، والذي نص على وقف إطلاق النار، وحل الخلافات بالحوار، وتنظيم عودة اللاجئين التوتسي في الدول المجاورة. لكن بعد نحو 7 أشهر على الاتفاق انفجرت الحرب الأهلية بصورة لم يسبق لها مثيل، عقب مقتل الرئيسين الرواندي والبورندي (وكلاهما من قبيلة الهوتو المسيطرة على الحكم في البلدين)، ولم تنته المجزرة الكبرى إلا بانتزاع "الجبهة الوطنية الرواندية" النصر العسكري ودخولها العاصمة كيجالي يوم الرابع من يوليو 1994، لكن زعيمها كاجامي لم يعلن نفسه رئيساً للبلاد، بل دفع بأحد المعتدلين من الهوتو، هو "باستير بيزيمونجو"، إلى منصب رئاسة الجمهورية، كما جاء بمعتدل آخر من الهوتو أيضاً لرئاسة الوزراء، ليصبح هو (كجامي) وزيراً للدفاع ونائباً لرئيس الجمهورية. لكن بعد "استقالة" بيزيمونجو في مارس 2000، تم انتخاب كاجامي في البرلمان رئيساً للجمهورية. ثم عقب إقرار دستور جديد للبلاد، انتخب بالاقتراع المباشر، في أغسطس 2003، وحصل على 97 في المئة من الأصوات. وكما أمكن فهم النتيجة أعلاه في حينه، فإن نتائج انتخابات الاثنين الماضي تبدو مفهومة للكثيرين بالنظر إلى الإنجازات التي حققها كاجامي خلال السنوات الأخيرة، حيث تحولت البلاد إلى الأفضل، وتضاعف النمو الاقتصادي، وتحسنت المؤشرات الصحية، وبات الزائر يرى شوارع ومباني نظيفة، كما أصبحت الرشوة المتفشية في الدول الإفريقية منعدمة في رواندا... والأهم أن الشعب بات ينعم بالأمن والسلام بعد 16 عاماً على جرائم الإبادة الجماعية. لكن المنتقدين لسياسات كجامي في هذا البلد الإفريقي المحاط باليابسة من كل الجهات، يرون أن الرجل الذي حقق تلك الإنجازات، والذي كثيراً ما يُمدح لرؤيته وصرامته، يميل إلى أساليب القمع والتضييق ضد خصوم "الجبهة الوطنية الرواندية" الحاكمة. وقد رصدت المنظمات الحقوقية العالمية انتهاكات ضد الصحافة وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني... لانتقادها كاجامي. وكما أصبح كاجامي أحد صناع إعادة بناء رواندا، بعد ما أصابها دمار وخراب واسعان خلال مذابحها الدموية، فقد كان أيضاً أحد المشاركين الأساسيين في حروب منطقة البحيرات العظمي، خاصة مند عام 1997 حين دعم الإطاحة بنظام سيسيكو في زائير. وما فتئ كاجامي على خلاف مع فرنسا؛ لاتهامه إياها بدعم نظام الهوتو السابق في كيجالي، علاوة على أنها سبق أن اعتقلته لأيام قليلة حين كان في باريس للمشاركة في إحدى جولات التفاوض عام 1993. وبالمقابل فإن كاجامي اليوم يعتمد أساساً على الدعم الأميركي والبريطاني، وكثيراً ما أشاد مسؤولو الدولتين بنجاحاته الباهرة، كما أشادت صحافتهما بالانتخابات الرواندية الأسبوع الماضي، وبدور كجامي خاصة في إعادة بناء رواندا الجديدة على أسس من النظام والمصالحة والقانون. محمد ولد المنى