لم يزل الجدل قديماً عبر الحضارات والأمم والدول حول سؤال أين تنتهي الحرية الشخصية وأين تبتدئ سلطة الدولة؟ كيف يمكن الموازنة بين الشأن الشخصي والشأن العام؟ ماهي حقوق الدولة وما هي حقوق المجتمع وما هي حقوق الفرد؟ منذ القديم وحتى يومنا هذا ما زالت تلك الأسئلة تحتفظ بجدّتها، وقوّتها، ومشروعيتها، وإضافة لهذا أو تجلياً له، فثمة عالمان مختلطان في عصرنا الحاضر، العالم العادي القديم الذي نشأنا فيه ونعرفه جيداً، والعالم الافتراضي الجديد الذي تسابق منتجاته استيعابنا، وتنافس مخرجاته قدراتنا على الفهم. إنّ العالم الجديد وإنْ كان افتراضياً فهو شديد التأثير في الواقع، فموقع جوجل مثلاً أصبح غذاءً يومياً للجميع، و"فيس بوك"، أصبح صديق الأجيال الجديدة التي تقدر بالملايين، وقد خاضت شركة "جوجل" معركة شهيرة مع الصين بخصوص خدماتها المتقدمة على الواقع، وسيخوض "فيسك بوك" مثلها أو نظيرها، إن عاجلاً وإن آجلاً. إن الصراع على المعلومة هو صراعٌ أزليٌ في تاريخ البشر، وتحكمه التساؤلات الثلاثة: متى وأين وكيف؟ متى أحصل على المعلومة؟ وفي أي مكانٍ؟ وبأية وسيلة؟ ولئن كانت السلطة السياسية وحدها هي التي تحظى بإجاباتٍ وافية لهذه الأسئلة في الماضي فإن العالم قد اختلف اليوم، وأصبح الحاظون بالإجابات كثرٌ، من مختلف الموارد والمصادر، ومفترق الوسائل والأدوات، وأصبح لهكرٍ صغيرٍ هنا أو هناك أن يحظى بما لا تحظى به دولٌ بكاملها من المعلومات، والأمثلة في هذا كثيرةٌ والنماذج لا تحصى، وما فضيحة تسريب آلاف الوثائق الأميركية السرية على موقع "ويكيليكس" عنّا ببعيد. أكثر ما تثيره معركة "البلاك بيري" الأخيرة مع السعودية والإمارات ومن تبعهما من دول المنطقة، هو سؤال قديمٌ في حقيقته، جديدٌ في تجلّيه، وهو سؤال من له حق الحصول على المعلومة أولاً؟ الوطن أم المواطن؟ المجتمع أم الفرد؟ الدّولة أم أفرادها؟ إنه سؤال شديد التعقيد والصعوبة، وليس سهلاً كما قد يبدو للبعض، فاختلاف المواقع والمسؤوليات يحتم اختلاف الإجابات، ولنعد طرح السؤال بصيغة أخرى، أين تبتدئ حرية الفرد وخياراته وأين تنتهي سلطة الدولة؟ وهل الأمن العام والاستقرار مسؤولية الفرد أم الدولة؟ وحين يتخذ القرار صاحبه هل يفكر في نفسه أم في مجتمعه؟ وأين تذهب حقوق المواطن في خصوصيته؟ شخصياً، أنا وبدون مواربة مع الحرية الشخصية على طول الطريق، ومع حقوق الفرد في صياغة خياراته في كل المجالات، أي مع "الفردانية" على الدوام، ولكنني حين أحاول التفكير بمنطق رجل الدولة، أجدني منحازاً لحقه في الاطلاع على ما يفيده في دفع الضرر عن شعبه، وضمان استقرار بلده ورفاهه. ثمة سؤال أخلاقيٌ هنا، وهو عن طبيعة رجل الدولة، هل هو حريصٌ على شعبه؟ هل هو مهتمٌ باستقرار بلده؟ هل سعيه للمعلومة سببه حماية المجتمع؟ كل هذه الأسئلة تحيط بما يجري اليوم حول "بلاك بيري" وغيره. المشكلة أعقد مما نتصوّر لا لشيء إلا لأنها تتعلق بمعايير شتى لوزنها ومحاكمتها والتعامل معها، ولكن لنضع أنفسنا في موضع صانع القرار، في الخليج على الأقل، والذي تعتوره تهديدات جديرة بالمراعاة والاهتمام، هل يضع الحبل على الغارب للتقنيات الحديثة التي يستغلها البعض لأغراضٍ تخريبية؟ أم يحرص على التنبؤ بالخطر قبل وقوعه، والضرر قبل حدوثه؟ مع انحيازي الواضح للحرية الشخصية لكنني –كما تقدّم- أتفهم حرص صاحب القرار حرصه على إجراءاتٍ قد تنال من هذه الحرية لصالح الأمن والاستقرار، فالأمن والاستقرار للجميع والحرية للفرد. لقد تغيّرت الأوضاع كثيراً عمّا كان في السابق، فتاريخ الدول المعاصرة في الخليج يثبت أنها غير مهتمةٍ بنقد للنظام الحاكم، ولا بتعليقٍ سافر في مجلس أو رسالة جوّال أو بريد إلكتروني، فهذه طبيعة الحياة، ولكنّها مهتمة باستقرار دولها أكثر بكثير، ونحن –دون شكٍ- معها في هذا الأمر. نعود للمعركة الأساس، "بلاك بيري" والسعودية والإمارات، لقد نجحت الدولة في هذه المعركة على الظفر بحقوقها وأخذت ما تريد، فبلاك بيري في النهاية شركة أكثر ما يعنيها هو حساب الأرباح والخسائر، ومهما تشدّق بعض مسؤوليها بالمبادئ والقيم، فإن هذا ليس إلا ذراً للرماد في العيون، وهذا بعكس الدول القائمة التي تسعى لضمان أمنها واستقرارها. يبقى سؤال مهم في هذا الإطار، ماهي سرعة التطور التقني؟ وما هي سرعة تجاوب الدول معه؟ تكمن أهمية السؤال في الحاضر المتطوّر يوما بيومٍ، وفي المستقبل القادم بكل جدّته وتطوّره، وفي اختراعاته التي لا تنتهي، وفي تجدده الذي لا ينقضي، واسألوا الشباب عن هذه الاختراعات والتجددات والمنتجات لتجدوا الخبر اليقين. لحرصي على التقنية الحديثة اقتنيت جهازاً حديثاً، وعلمني صديقٌ كيف أن هذا الجهاز يحوي برنامجاً يربط جوالي بـ"اللاب توب" مباشرة، وكم كنت سعيداً بهذا البرنامج، بحيث أنني حينما تخطر ببالي فكرة ما في أي مكانٍ فباستطاعتي كتابتها في الجوال لتصبح نسخة منها على اللاب توب، وحين تحدّثت مع بعض الأصدقاء عن هذا البرنامج أخذ يسرد عليّ أسماء عشرات البرامج من هذا النوع وكيف تعمل وكيف يمكن الاستفادة منها، وأسهب بما فاق استيعابي التقني الذي احرص على تطويره يوماً بعد يومٍ. قدرنا مع هذا اللهاث التقني المتصاعد يكمن في محاولة التعايش معه، وملاحقته كل حسب قدرته واستطاعته، ومن المثير أن تنقلب الآية ليصبح كثيرٌ من الأبناء معلّمين لآبائهم في كيفية استخدام أحدث التقنيات والاستفادة منها، وهذا انقلاب اجتماعي وتربوي جدير بالعناية والتأمل. إن كثيراً من المنخرطين في مجتمع البلاك بيري قد اشتروا الأجهزة بحرّ مالهم، ويدفعون قسطاً شهرياً لقاء خدمات "البلاك بيري"، وحين يتمّ التلويح بإلغاء الخدمة فثمة سؤال حقوقي هنا وهو من المسؤول –إذا تمّ إلغاء الخدمة- الذي يجب أن يعوّض هؤلاء المستخدمين عن خسائرهم؟ هل هي الدولة أم شركات الاتصالات أم شركة "بلاك بيري"؟ لا أملك جواباً لهذا السؤال، ولكن الحقوقيين لابد أن تكون لهم مشاركة للإجابة على هذا السؤال، وإن كنت أرجو أن يتوصل الأطراف لحلولٍ مرضيةٍ بدلاً من إلغاء خدماتٍ تقنية متطوّرة تسهّل إنجاز الأعمال، وتساعد على التواصل الإنساني بين أعضاء مجتمع "البلاك بيري"... ورمضان كريم. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com