عقب الحرب العالمية الثانية، أي قبل أكثر من ستة عقود، برز تطور مهم في النظام العالمي هو الأكثر تأثيراً منذ أن تأسس مفهوم الدولة القطرية عقب اتفاقية وستفاليا في القرن السابع عشر. ذلك النظام العالمي الجديد هو ما يحدث عقب كل حرب كبرى، كالحرب العالمية الأولى التي أنهت عصر ووجود الإمبراطوريات والحرب العالمية الثانية التي أسست لعصر المنظمات الدولية والإقليمية بأنواعها السياسية والاقتصادية والعسكرية وأنهى احتكار وسيطرة الدول في النظام العالمي كلاعب وحيد دون غيره. وعقب الحرب الباردة التي أنهت نظام الثنائية القطبية. وأتت ولادة الأمم المتحدة ومنظمات دولية وإقليمية أخرى تشعبت وتخصصت في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتنوعت لتشمل المنظمات الحكومية وغير الحكومية والشركات العابرة للقارات والمنظمات المصنفة إرهابية. ثم اكتمل الطوفان بثورة المعلوماتية وتكفلت وسائل الإعلام بأنواعها الإلكترونية والمرئية وغيرها من وكالات أنباء وفضائيات ومواقع إنترنت ومدونات وبث على مدار الساعة في اختراق للحدود وساهمت في تآكل لسيادة وهيمنة الدول على ما يمكن لمواطنيها من متابعته وقراءته وإرساله واستقباله. وزادت كمية المعلومات والتعرض لعادات ولغات وأوضاع الآخرين في دول ومجتمعات وقارات في العالم. بعض من اللاعبين من غير الدول بات نفوذه وتأثيره وحضوره، وخطره، يتجاوز في قدراته وتأثيره العديد من الدول. وأصبح بعض تلك المنظمات يهدد أمننا واستقرارنا ومصالحنا بحضور مؤثر ومتصاعد. ولكن مع ذلك تبقى الدولة هي اللاعب الرئيسي والأساسي في النظام العالمي اليوم بعد أكثر من ستة عقود على دخول اللاعبين من غير الدول بجميع أنواعهم. كل ذلك دشن لفاعلين أو لاعبين من غير الدول التي كانت ولا تزال اللاعب الرئيسي والأهم في النظام العالمي حتى اليوم. وأعطى قيام الأمم المتحدة، أكبر منظمة دولية زخماً وحضوراً غير مسبوق للاعب جديد غير الدول-Non State Actors.. وتبع ذلك تخصص المنظمات في المجالات شتى من حلف "الناتو" العسكري وما تبعه من استقطاب بأحلاف ومنظمات أخرى. ومنذ ذلك الحين زاد نشاط وحضور وتنوع اللاعبين من غير الدول ليشمل منظمات حكومية وغير حكومية ومنظمات دولية وإقليمية وشركات عابرة للقارات ومنظمات إرهابية. وهناك المجمع الصناعي العسكري والأخوات السبع لشركات النفط العملاقة ومؤسسات مصرفية وشركات التكنولوجيا والإلكترونيات وشبكات ومحطات التلفزة الإخبارية وغيرها ومواقع الإنترنت ووسائل الاتصالات والهواتف الذكية مثل البلاك بيري وآي فون وغيرهما التي أعلنت مؤخراً العديد من الدول في منطقتنا وخارجها في الشرق والغرب بأنها تهدد الأمن الوطني وسيادة الدول. هذا كله أوجد تساؤلاً مؤداه: لمن الأولوية، للأمن الذي هو من سيادة الدول أم للحريات التي يحمل لوائها اللاعبون من غير الدول؟ مؤخراً سيطر على الأحداث حول العالم العديد من هؤلاء اللاعبين من غير الدول ويتجلى ذلك من أسوأ كارثة بيئية ضربت الولايات المتحدة الأميركية وتسببت بها شركة "بريتش بتروليوم" النفطية في خليج المكسيك شمل خمس ولايات أميركية وبكلفة مليارات الدولارات، إلى تصنيف الولايات المتحدة الأميركية تنظيم "القاعدة" هو أكبر تهديد للولايات المتحدة في الداخل الأميركي ولمصالحها في الخارج. كما أن اعتراف واشنطن بأن أكبر تهديد لمصالحها في الخارج، وأكبر تهديد لأمنها في الداخل هو ليس من دولة عظمى أو خصم تقليدي بل هو من تنظيم "القاعدة" الإرهابي. ويأتي ذلك بعد تسعة أعوام من حرب القوة الأكبر في العالم على "القاعدة" وعلى الإرهاب. ليس ذلك فحسب، بل حسب تقرير وزارة الخارجية الأميركية، فإن "القاعدة" وبالرغم من النكسات التي تعرض لها، فإن تأثيره يتمدد لمناطق جديدة في الصومال واليمن وشمال أفريقيا. وآخر عملياته إدعاؤه مسؤولية عملية ضد ناقلة النفط اليابانية العملاقة في مضيق هرمز وعمليات في العراق تم خلالها استهداف رجال الشرطة. ومن اللاعبين من غير الدول، نجد أن الهواتف الذكية كـ"البلاك بيري"، قد أثار الكثير من اللغط، وخاصة بسبب عدم قدرة الدول على التحكم والسيطرة على ما يتم تبادله بين تلك الأجهزة مما يعرض الأمن الوطني للدول للاختراق والخطر بسبب سوء استغلال هذه الخدمات، واستخدامها في عمليات أمنية وإرهابية وتجسسية. في عام 2008 أصدر مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي تقريراً مستقبلياً مهماً عن تصور الاستخبارات الأميركية للنظام العالمي في عام 2025، وذلك بناءً على معطيات ومتغيرات عالمية واستراتيجية لعالم متغير. من بين هذه المتغيرات المهمة تنبؤ يتعلق بتراجع الهيمنة الأميركية في النظام العالمي، وزيادة حضور ودور اللاعبين الجدد من الدول ومن غير الدول، ويعترف التقرير أنه في المستقبل سيزيد من حضور وقوة وتأثير"اللاعبين من غير الدول." بما فيها"الشركات العابرة للقارات، والقبائل، والمنظمات الدينية، والشبكات الإجرامية." في المجمل، لقد ازدادت اليوم أنواع وأشكال وأنماط التحديات والتهديدات، ولم يعد مصدر التهديد من الدول، بل توسعت رقعته ومخاطره لتشمل اللاعبين غير التقليديين من غير الدول، وذلك هو الأخطر والأكثر تأثيراً. يقود ذلك منظمات وجماعات وشركات ومؤسسات تستخدم السلاح الناعم والخشن والتكنولوجيا وثورة المعلومات لتهدد أمننا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. التحدي الجديد أمام الدول اليوم هو كيف يمكن التعامل مع هذا الواقع الجديد وغير التقليدي بشكل غير تقليدي ليحتوي خطر وتهديد هذا اللاعب الجديد؟!