جاء جورج ميتشل مبعوث الرئيس الأميركي إلى المنطقة للمرة الواحدة بعد المائة، وفي ظنّه هذه المرة أنه سيحصل من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على التزامٍ بالدخول في مفاوضات مباشِرة. لكنه بعد ثلاث ساعاتٍ من المُجادلات مع الرئيس الفلسطيني عباس، خرج قائلاً إنه قد حصل تقدم، وأنه سيعود مرةً أُخرى للحديث مع عباس. أما الفلسطينيون من جهتهم فقالوا إن إيضاحات ميتشل ما كانت كافيةً للاقتناع بالتحول إلى التفاوُض المباشر. والإيضاحات أو الضمانات التي يريدها الفلسطينيون، وقد قالوها لأوباما ثم كتبوا بها إليه، وتحدثوا عنها عشرات المرات في وسائل الإعلام، هي في الأساس: الإعلان عن المرجعية، والإعلان عن الغاية أو الهدف، وتحديد مدة زمنية للتفاوض، وتوقُّف أو تجميد الاستيطان أثناء التفاوُض. وأول الشروط وأكثرها أهميةً، وهو المرجعية، يعني القول بأنّ الحدودَ المفاوَض عليها هي حدود عام 1967، والهدف إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عليها. والمدة الزمنية حتى آخر نوفمبر من العام الحالي. وتجميد الاستيطان يتناول الضفة والقدس. وكان الإسرائيليون يجيبون دائماً أنهم لا يقبلون التفاوُض بشروط، ولا يقبلون بتجميد الاستيطان وعلى الخصوص في القدس. ولا يرون تحديد حدود الدولة الفلسطينية. وتحت الضغط الأميركي على الطرفين في الشهرين الماضيين، بدا الفلسطينيون والعرب أَمْيَلَ إلى الاستمرار في التفاوُض لمدةٍ محدودة، في حين بدا الإسرائيليون ميَّالين إلى التنازُل في مسائل الاستيطان. ويقال إنهم سيتنازلون في مسألة المرجعية في اللحظة الأخيرة، إنما بإضافة دالّة بحيث تُصبحُ العبارة: "المفاوضات على أساس حدود عام 1967 مع إمكان تبادُل للأراضي"، بحيث تبقى المستوطنات الخمس أو الستّ الكبرى في الضفة الغربية. وتبقى المشكلةُ الاَعَْوَص: مشكلة القدس، والتي تعتبرها إسرائيل عاصمتها الأبدية، ويعتبرها الفلسطينيون عاصمة دولتهم الموعودة، وما يزال الإسرائيليون يُهجِّرون الفلسطينيين منها، ويزيدون المستوطنات الضخمة في ضواحيها وجوارها. لقد التزم أوباما منذ ما قبل استلامه منصبه بالنهج السلمي والتفاوُضي، وفي الأمور الثلاثة المهمة المتعلقة بالمنطقة العربية والإسلامية: العراق وأفغانستان باتجاه انسحاب القوات الأميركية والأطلسية على مدى سنواتٍ قليلة، وحلّ المشكلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال سنتين أو ثلاث باتجاه إقامة دولتين على أرض فلسطين، والتزام الضغط السلمي والتفاوض في معالجة الملفّ النووي الإيراني. ولو تأملنا هذه الملفّات جميعاً بعد عامٍ وثمانية أشهُر من رئاسة أوباما، لوجدْنا أنه من بين هذه المسائل كلّها حدث تقدمٌ محدودٌ فقط في العراق. ومع ذلك فإنّ أكثر السياسيين العراقيين- الذين ما استطاعوا تشكيل حكومة حتى الآن- يدعون الأميركيين إلى التريُث في سحب قواتهم حتى لا تزدادَ الأوضاعُ الأمنيةُ تردّياً، ويزداد التدخل من دول الجوار؛ وبخاصةٍ أن رئيس الأركان العراقي قال إنّ القوات العراقية لن تتمكن من السيطرة بالداخل وعلى الحدود قبل عام 2020! أمّا في أفغانستان- وبخلاف ما خطّط له أوباما- فإنّ الاضطراب ازداد اشتعالاً، وصارت "طالبان" تسيطر على عدة مناطق، وكثر القتلى والعمليات بين الطرفين. وفي القضية الفلسطينية؛ فإنه بعد عامٍ وثمانية أشهر من جولات المبعوث ميتشل، ما أمكن تحقيق أيّ تقدم. وقد أُرغم الفلسطينيون على الدخول في مفاوضات غير مباشرة بتوسط أميركي، دونما حصول اختراقاتٍ ولو ضئيلة. والآن، بل منذ أكثر من شهر، يطلب الأميركيون التحول إلى المفاوضات المباشرة، بينما كان الفلسطينيون والعرب الآخرون، قد هيّؤوا أنفُسَهُمْ لقطع التفاوُض غير المباشر، والذهاب إلى مجلس الأَمْن. والملفّ النووي الإيراني ساءت الأوضاعُ فيه، وزيدت العقوبات في مجلس الأمن على إيران للمرة الرابعة. ويقال الآن إن الطرفين: الغربي والإيراني سيعودان للتفاوُض في سبتمبر دونما توقُّعاتٍ كبيرة. لماذا حصل ذلك كُلُّه، وإِلى أين تتجه الأُمور؟ أول ما ينبغي ملاحظتُه أنّ أوباما ورث مشكلاتٍ مستعصية كان بوش يحاول حلَّها بالقوة، قبل أن يتّجه في عام 2007 إلى التفاوُض لتهدئة الجبهات. لكنّ سائر الأطراف التي كسبت منذ عام 2003 (غزو العراق)، لا تريد التنازُل عمّا كسبت وبخاصةٍ إيران وإسرائيل. ولهذا فإنّ السنتين الأُوليين من عهد أوباما ضاعتا أو استُهلكتا في محاولة تثبيت أُسُس النهج الجديد دونما تحقيق إنجازاتٍ أو اختراقات. وقياساً على ما كان حتى الآن؛ فإنّ التوقُّعات في سائر الملفّات تظلُّ مُقْبضةً وغير واعدة. وما دام النهج الجديد بهذه الكيفية وهذه الحدود؛ فإنّ ما يمكن قولُهُ الآن هو أنّ أميركا الجديدة نجحت خلال العامين الماضيين في منع تجدد الحروب الصغيرة والشاملة لا أكثر. لكنّ أميركا الآن تحذّر سائر الأطراف، وبخاصةٍ العرب، أنهم إنْ لم يقدّموا تنازُلات من أجل استمرار التفاوُض؛ فإنها لا تضمنُ عدم تجدُّد الحروب على الوتيرة التي كانت معروفةً في فترتي رئاسة بوش الابن. ومن جهةٍ ثانية؛ فإنّ الإعاقات والانسدادات التي حصلت، أعادت ربْط الملفَّين الملتهبين: الملفّ الإيراني، والملفّ الفلسطيني الإسرائيلي. فالإيراني متضايقٌ جداً من الحصار المفروض عليه، ومن استعصاء مناطق النفوذ السابقة عليه. لذلك يُكْثر الأمين العام لـ"حزب الله"- وهو يحاولُ تضييع المحكمة- من القول إنه يريد مَنْعَ التسوية الظالمة. وقد خشينا عندما حصل الاشتباك بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي على الحدود، أن تكون تلك حرباً لمنْع "التسوية" أو إعاقتها. بيد أنّ الطريف في الأمر أنه لا أحدَ منا أو من القريبين من المفاوضات، يرى احتمالاً قوياً للتقدم باتجاه التسْوية؛ إنما الذي يبدو أن ذلك ليس وجهة نظر إيران و"حزب الله"، اللذين يعتبران أنّ كلَّ تقدمٍ يحصل في هذا المجال سيكونُ على حسابهما! وما فوجئَ أحدٌ بالهجوم على المحكمة الخاصة، التي عاداها الحزبُ من ثلاث سنوات. إنما المفاجئ هو التبدلات السريعة وشبه اليومية في الموقف السوري. فبعد أن بدا أنه يريد الوقوفَ على الحياد للتمكُّن من التوسط في التهدئة، عاد سفير سوريا في لبنان لدعم "قرائن" أمين عامّ "حزب الله" ضد المحكمة، وقال الإيرانيون إنه لا خلاف بينهم وبين السوريين بالعراق أيضاً! وهكذا، فالجميع لا يريدون الحرب الآن على الأقلّ. والكل يريد التفاوُض أو لا يريده لكنه لا يستطيع رفْضه، مع القول مسبقاً إنه لا أمل فيه. على أنّ الطرف الفلسطيني هو الأكثر ضيقاً واستنزافاً. فالاستيطان في الضفة يتقدم. والإسرائيليون يعتبرون أنّ القدس غير قابلة للتفاوُض؛ وهذا هو سرُّ حرصهم على عدم الحديث عن حدود عام 1967. والسلطة الفلسطينية رغم هذه الحواجز لا تملكُ خياراً آخَرَ غير التفاوُض ولو من أجل التفاوض، لأنّ هذه هي رغبة الأميركيين. ومع أنّ الرفض والتحول إلى الجهات الدولية، يُظهر شيئاً من التماسُك، إنما في آخر هذا العام سوف تجد نفسَها في الموقع الذي هي فيه اليوم، لكنْ بدون الحرص الأميركي الظاهر الآن. والطريف أنه إلى ما قبل أسبوعين أو ثلاثة كانت هناك أطراف عربية تقول: أعطوا أوباما فرصة، أمّا اليوم فقد انضمّ نتنياهو إلى هؤلاء وبالعبارة نفسها: أعطوا أوباما فرصة، وأعينوني أنا أيضاً بالتنازُل في شروط التفاوُض، لكي لا تتفكَّك حكومتي! وهكذا يكون علينا أن"نحمل هَمَّ" الإسرائيليين والإيرانيين والأميركيين... ولا أدري مَنْ ومَنْ، أمّا همُّنا نحن- والذي تنوءُ بعبئه الجبال- فلا حاملَ له، ولا مُعين عليه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.