بين التهديدات الإسرائيلية المستمرة ضد لبنان، والتوتر الحاصل على جبهة الجنوب منذ الاعتداء على الجيش اللبناني في بلدة العديسة، والتوتر الداخلي والقلق من فتنة مذهبية سنية – شيعية في ظل التجاذب مجدداً حول المحكمة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، واحتمالات قرب صدور قرار ظني في هذا الشأن وتسريب معلومات عن هذا الأمر، ودخول إسرائيل على الخط من خلال بث معلومات تتهم "حزب الله"، و"التسويق" لفتنة ستحصل مباشرة بعد صدور القرار، ثم المؤتمر الصحفي لنصر الله الذي اتهم فيه إسرائيل بارتكاب الجريمة، وما سبق ذلك من تحرك رفيع المستوى رعاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الأسد لحماية الاستقرار في لبنان، وتثبيت اتفاق الدوحة واستكمال تطبيق اتفاق الطائف ومنع اللجوء إلى العنف... كل هذا المشهد يشير إلى ترابط الأمور ببعضها بين ما يجري في الداخل والجنوب وما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه. وعندما تتحرك إسرائيل فهي تلقى مباشرة الدعم المفتوح من الأميركيين. ولذلك، القول إن إسرائيل تريد استهداف لبنان، والانتقام من لبنان والمقاومة و"تعليم اللبنانيين درساً لن ينسوه هذه المرة" واستعداد أميركا الدائم للوقوف إلى جانبها واللعب على وتر التناقضات الداخلية والرهان عليها لتصفية حسابات مع "حزب الله" ومن خلاله مع إيران، ولتعزيز وضع في مرحلة ما بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها. كل هذا لا يحمل جديداً، ولا يكشف سراً. هذه هي إسرائيل. هذا هو دورها. هذه هي طبيعتها، والذي ينتظر منها شيئاً آخر يكون مخطئاً في التحليل السياسي. يتورط، ويورط غيره. وهذه هي أميركا، هذه هي سياستها وحساباتها وهذا هو دورها. وهذه هي رهاناتها، ومن لم يتعلم بعد من التجارب ومن الرهان على موقف مصادق لها ورعاية وحماية وضمانة من قبلها له، فليراجع حساباته قبل فوات الأوان. أميركا لها سياساتها تجاه لبنان، وإسرائيل تريد الفتنة في لبنان، ولكل منهما دوافعه. ولكن ماذا نريد نحن؟ هل نلقي اللوم الدائم عليهما، ونكتفي بذلك ونرى البلد ينزلق فعلاً نحو الفتنة؟ ألا يكون الهدف الإسرائيلي قد تحقق، أو هو في طريقه إلى التحقق ونكون نحن قد استدرجنا إلى لعبة تحقيقه؟ نحن معنيون بقراءة دقيقة للموقف وبترّفع في التحليل عن الحساسيات الضيـّقة والحسابات الصغيرة والانفعالات. لا سيما ونحن أمام فرصة كبيرة مهمة أتاحتها لنا زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس بشار الأسد إلى لبنان وما صدر عنها من نتائج تعتبر أمانة بين أيدينا. فلا يستطيع أحد أن يحمينا ويساعدنا إذا لم نكن مستعدين أولاً وقادرين على تلقف الفرصة وحمايتها لحماية أنفسنا. نعم، الجهد السعودي – السوري، استثنائي. مهم. حاسم. والقرار واضح. والرغبة واضحة والتفاهم تام بين القيادتين السعودية والسورية. لا للفتنة في لبنان. نعم للاستقرار. نعم للوحدة الداخلية. نعم للاطمئنان إلى الساحة اللبنانية، لمواجهة ما يجري على الساحات الأخرى. في هذا السياق، يمكن القول إن استعدادات ما بعد القمة لتلقف النتائج يمكن البناء عليها. والأنظار كلها تتجه هنا إلى الرئيس سعد الحريري الذي سمّي بـ "ولي الدم" وهو في وضع صعب، لكنه في الوقت ذاته أمام استحقاق تكريس موقع زعامة حقيقية في حياته السياسية، وهو رئيس الحكومة اللبنانية، ابن رفيق الحريري، زعيم الطائفة السُنية، صاحب تحالفات سياسية كبيرة في لبنان، وامتدادات في علاقات سياسية عربية ودولية متنوعة. والمسؤولية الأخرى تقع أيضاً على عاتق نصرالله المستهدف الأول من إسرائيل هو ومقاومته نظراً لما ألحقه بها من هزائم وإذلال. بوابة الاستهداف متنقلة. تارة "فاطمة" وطوراً "العديسة"، ومرة "الغجر" ومرة أخرى " شبعا وكفرشوبا"، وحيناً من "البحر" وأحياناً "تحت البحر" لاستهداف النفط هذه المرة! في الأيام الأخيرة ارتفعت أصوات في الكونجرس الأميركي تطالب بوقف تسليح الجيش اللبناني. من يسمعها يعتقد أن السلاح الأميركي النوعي يتدفق على لبنان بشكل استثنائي، وأن الجيش بات يملك قوة عسكرية هائلة والحقيقة هي عكس ذلك تماماً. الجيش لا يعطى الحد الأدنى المطلوب له. الجيش اللبناني لم يسلّح ولا يسلّح ولن يسلح من قبل أميركا. فتات الأسلحة القديمة "المرمّمة" تعطى له. وهذا أمر غير كاف وغير مقبول والسبب في ذلك القرار السياسي بمنع تسليحه، لإبقائه ضعيفاً غير قادر على القيام بدوره ولإضعاف الدولة اللبنانية، ولإبقاء الباب مشرّعاً أمام إسرائيل لفعل ما تريده ولتبقي الجيش "مكسر عصا" كما يقال لإذلال لبنان ودولته ومؤسساته! الموقف الأخير كشف أميركا أمام الذين لم يقتنعوا بعد. والموقف الرسمي كان جيداً عموماً، ويجب أن يكون أقوى في الأيام المقبلة، وألا يكون ثمة تردد أو خجل في انتقاد تلك الأصوات الأميركية. ما قدمه نصرالله من معلومات حول جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري واتهم على أساسها إسرائيل بالوقوف وراء العملية، وبغض النظر عن كل الأسئلة التي طرحت حول التأخر في تقديمها، والخلفيات والتوقيت، فإن ما قيل اعتبر قرائن وأدلة، والرد الذي صدر عن كتلة المستقبل النيابية وعن ولي الدم نفسه الرئيس سعد الحريري، كان إيجابياً هادئاً مستوعباً متلقفاً وهذا يعتبر قمة المسؤولية في التعاطي مع مثل هذه القضية في هذا التوقيف بالذات. هذه الإشارات تؤكد التقاط الإشارات السياسية المهمة الصادرة عن قمة بعبدا إثر زيارة القائدين السعودي والسوري معاً إلى لبنان. ويجب تحصين الوضع الداخلي ومساعدة الرئيس الحريري ودعمه والعمل على الاستفادة من المناخات الأخيرة وفتح قنوات التواصل والحوار المباشر بينه وبين نصرالله وإبقاؤها مفتوحة لأنها الضمانة لوأد الفتنة وحماية لبنان. كيف لا، وقد أصبحت مؤسساتنا مخترقة بالعملاء لإسرائيل والثقة بها تكاد تكون مهزوزة بالكامل. ألا يستدعي ذلك وحده موقفاً وتحركاً؟ فكيف إذا كان كل السقف الذي يظلل رؤوسنا مهدداً بالسقوط؟