في بيئة الناشطين دفاعاً عن حقوق الإنسان والديمقراطيّة هناك مناخ من الإحباط لا يفوت عين الناظر المدقّق. هذا ما نلقاه في كلّ عاصمة عربيّة يقصدها المرء أو يصيخ السمع إلى أصواتها وأمزجتها. والحال أنّ الكثير من الإحباط هذا يتّخذ شكلاً بريئاً، إن لم يكن ساذجاً، مفاده المفاجأة بأنّ الدول الكبرى تغلّب، في لحظة الحسم، مصالحها الذاتيّة! والواقع أنّ تغليب المصالح هو بالتعريف وظيفة مهيمنة من وظائف الدولة، أيّة دولة. لكنّ هذا بذاته لا يعني آليّاً التخلّي عن الديمقراطيّة. فمثل هذا التخلّي يحصل فقط حين يغدو التعارض بين الديمقراطيّة والمصالح أمراً لا تسوية له. أي أنّ في الأمر، أمر الدول، ليونة ومساومات لا تشبه الثنائيات العقائديّة القاطعة. فالولايات المتّحدة تفضّل الديمقراطيّة في العالم العربيّ على الاستبداد، مثلما كان الاتّحاد السوفييتيّ يفضّل قيام أنظمة شيوعيّة أو اشتراكيّة، تحلّ محلّ الأنظمة الرأسماليّة وشبه الرأسماليّة. لكنّ هذا التفضيل لم يمنع السوفييت من التواطوء على شيوعيّين كثيرين في العالم، كالشيوعيّين اليونانيّين، مثلاً، الذين ذُبحوا في نهاية الحرب العالميّة الثانية، أو الشيوعيّين المصريّين الذين طلبت إليهم موسكو في عام 1964 أن يحلّوا حزبهم ويندمجوا في "الاتّحاد الاشتراكيّ". ولا بأس في التذكير بأنّ البلدان الغربيّة الديمقراطيّة تواطأت ذات مرّة على بلد أوروبيّ وديمقراطيّ، وهو ما كانت نتيجته صفقة معاهدة ميونيخ الشهيرة التي دفعت الفرنسيّين والبريطانيّين لأن يتخلّوا عن تشيكوسلوفاكيا لأدولف هتلر. الأمثلة، إذن، كثيرة والتناقضات الظاهريّة كثيرة. أمّا في حالتنا، فقد اصطدمت دواعي "الحرب على الإرهاب" وحوافزها، بما في ذلك تقوية الأنظمة الحليفة لواشنطن، بالديمقراطيّة التي تنطوي على إضعاف تلك الأنظمة الحليفة. وبما أنّ "الحرب على الإرهاب" طالت وتشعّبت فيما قلّت ثمارها وعوائدها، بدا أنّ التسوية التي انعقدت في عهد بوش بين "المصالح" و"المبادئ" باتت مطروحة على التغيير وإعادة النظر. هكذا كانت الأوباميّة بديلاً من البوشيّة التي ثبت فشلها بعد خوضها حربين كبريين، كما انتصب مبدأ يقول إنّ الديمقراطيّة في الشرق الأوسط، بوصفها مصلحة أميركيّة على المدى البعيد، غدت عبئاً عمليّاً على المصالح المباشرة لأميركا، من دون أن يكون هناك تناقض نظريّ أو جوهريّ بين الأمرين. وهذا ما كان يستند فعلاً إلى حقيقتين دامغتين ومؤسفتين: الأولى، أنّ الديمقراطيّة في مصر وفلسطين أفادت "الإخوان المسلمين" وحركة "حماس"، والثانية، أنّ الديمقراطيّة في العراق أفادت، في التحليل الأخير، إيران. والأطراف الثلاثة ("الإخوان" و"حماس" وإيران) راديكاليّون وأصوليّون ومناهضون لأميركا. إذن لماذا كلّ هذا التعب؟ لكنّ مسؤوليّة دول الغرب، ولاسيّما الولايات المتّحدة، ينبغي ألاّ تحجب مسؤوليّة المجتمعات والثقافة في العالم العربيّ، وهي مسؤوليّة ضخمة وإنْ تركّزت في الخلفيّات أكثر ممّا في الواجهة. فطلبُ الديمقراطيّة (وليس عرضها فحسب) كان ويبقى نشاطاً نخبويّاً ضيّقاً تحمله، في عالمنا العربيّ، نوادي الناشطين والمثقّفين ومنابرهم وروابطهم. إنّه، على الإطلاق، لم يغدُ مطلباً شعبيّاً عريضاً حاله حال المطالب المتّصلة بالقوميّة أو الإسلام أو فلسطين. أكثر من هذا، هناك أكثر من دليل على أنّ شعوبنا مستعدّة دائماً للتسامح مع استبداد الحاكم المستبدّ حين يتّخذ موقفاً راديكاليّاً في مصارعة الغرب والولايات المتّحدة وإسرائيل. في هذه الحال، تميل أكثريّاتنا الساحقة إلى وضع مسألة الديموقراطيّة والاستبداد بين هلالين أو في الثلاّجة. ثمّ، إنّ ما آلت إليه النتيجتان العراقيّة (حرب 2003 الأميركيّة) واللبنانيّة (حركة 14 آذار وذيولها) يدلّ على أنّ الواقع الطائفيّ والإثنيّ في البلدين، وفي بلدان مشابهة عديدة، أقوى بكثير من الواقع الوطنيّ. وهذا تطوّر مُحبط للديموقراطيّة التي تلي التشكّل الوطنيّ ولا يكون لها أيّ معنى من دونه. إنّ الحدّ الأدنى المفتقَد في حال كهذه هو الأمن الذي لا تُبنى ديمقراطيّة (ولا يُبنى أيّ نظام) من دونه، وكذلك الطبقة الوسطى العابرة للجماعات الطائفيّة والاثنيّة، والتي من دونها تبقى الديمقراطيّة خطابة وإنشاءً ونوايا حسنة. من جهة أخرى، وهذا ما يصحّ في بلداننا كما في بلدان عالمثالثيّة أخرى (فنزويلاّ شافيز، زيمبابوي موجابي)، وجدنا أنفسنا في لحظة من الخيار الصعب الذي أنتجه اقتران الديمقراطيّة برأسماليّة السوق في ظلّ المرحلة العولميّة الانتقاليّة. على هذا النحو، تعاظم العنصر الشعبويّ والثأريّ في الديمقراطيّة بوصفها ممارسة انتخابيّة. هكذا تحوّلت الأكثريّات الشعبيّة التي أرهقها الفقر، وضخّمتها الثورة الديموغرافيّة، لتستخدم صندوق الاقتراع استخداماً ثأريّاً ضدّ الأقليّات التي غالباً ما تصدر عن هويّات دينيّة أو طائفيّة أو إثنيّة مغايرة. على هذا النحو صار السؤال الصعب الذي يواجه الديمقراطيّ: هل تقبل بالمكسب الديمقراطيّ مقابل التنازل عن مكاسب أخرى لا تقلّ أهميّة تتّصل بالعلمنة والتعليم والمأكل والملبس.. إلخ؟ وأخيراً، ليس من المنطقيّ ولا من المتوقّع أن تقلع الديمقراطيّة في بلداننا قبل أن نتصالح مع الثقافة الغربيّة والغرب: لا ديمقراطيّة في مناخ الحروب والمواجهات المصيريّة على أنواعها. مثل هذا لم يحدث مرّة من قبل ولن يحدث في المدى المنظور. كذلك لا ديمقراطيّة بالحيلة أو بالاجتزاء والانتقائيّة، على طريقة: نريد الديمقراطيّة من دون العلمنة (أو نريد العلمنة من دون الديمقراطيّة). إمّا أن يؤخذ أفق الحداثة التاريخيّ أو أن يُهمل. ولا بأس بالتذكير بأنّ كلّ نتاجات الحداثة "المستوردة" ظلّت مستوردة ولم تتعرّض عندنا للتبيئة، من الوطنيّة إلى الاشتراكيّة. لماذا، إذن، سيكون حظّ الديمقراطيّة أفضل؟ هذه الملاحظات ليست أكثر من عناوين عامّة تصف مسؤوليّتنا كشعوب وجماعات ونخب عمّا آل إليه أمر النضال في سبيل الديمقراطيّة (ليته بدأ بشعارات أكثر تواضعاً: حكم القانون مثلاً). ويُستحسن إخضاع مسؤوليّتنا هذه للنقاش الواسع، فلا يقتصر نقد ناشطي الديمقراطيّة وحقوق الإنسان على ما حصل في الولايات المتّحدة وعلى "انعكاس" ذلك علينا. مثل هذا يعيد إدراج النشطاء المذكورين في وعي قوميّ يستهجن أيّ نقد يُوجّه إلى تراكيبتنا الثقافيّة والسوسيولوجيّة.وهذا، بالتأكيد، عكس مرادهم الأصليّ.