العنوسة مرض اجتماعي عضال، أسبابه متعددة وآثاره مدمرة وطرق علاجه تتوزع على نظريات وفلسفات ورؤى وأحوال يتجاذبها الناس في الشرق والغرب من دون علاج شاف، أو حل حاسم، حتى هذه اللحظة، ليس فقط لأن بعض هذه التصورات يعوزه الاكتمال والنجاعة، لكن أيضاً لأن إرادة التطبيق غير متوافرة في كل الأوقات، وأحياناً يعرف الناس المسارات التي يمكن أن تساعدهم في التخلص من هذه المشكلة، أو تخفيفها، لكنهم يروغون منها، ويماطلون في اتباعها. وقد استفحلت العنوسة في بلادنا إلى درجة لم يعد معها الصمت ممكنا، فحين تشير الإحصائيات إلى أن عدد العانسات في مصر قد بلغ تسعة ملايين فتاة، نكون بصدد مشكلة حادة. وحين نقلب صفحات الدراسات التي تعرضت لفحص هذه الظاهرة الاجتماعية حتى قتلتها بحثا نجد أن أغلبها، إن لم يكن جميعها، يركز على دور العوامل الاقتصادية في صناعة المشكلة، حيث يعزوها إلى الفقر وضيق ذات اليد الذي يجعل الشباب يعزف عن الزواج، ويهرب من مسؤولياته الجسيمة، لاسيما مع ارتفاع متطلبات الحياة وتعقدها بدرجة صارت فيها كماليات كنا نحسبها منذ سنوات ترفا زائدا ضروريات لا استغناء عنها. وفي ركاب هذا ارتفعت المهور وبهظت وانتشرت عدوى هذا الاتجاه فأصابت أغلب الأسر، وتوارى معها أي تطبيق للحديث النبوي الشريف الذي يقول: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"، فالبعض يردده، كأنه مجرد كلام يقال، فإن طالبته بتطبيقه تشعر وكأن ما قاله النبي الكريم لا يخصه، وتجد بونا شاسعا بين ما يفعله وبين ما يفرضه الدين. لكن، هل العامل الاقتصادي هو المسؤول وحده عن العنوسة؟ والإجابة التي تأتي للوهلة الأولى هي: لا. ففي المنشأ لا توجد مشكلة لها سبب واحد أو رافد وحيد يوجدها ويغذيها ويخدم استمرارها، فالمشكلات الإنسانية جميعا لها أكثر من جانب، وتفسيرها يعتمد على تفكيك أكثر من عامل، لأنها تتسم بالتعقيد الذي يؤدي إلى تخالط الجوانب الاقتصادية مع الاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية... الخ. وهذه السمة تنطبق على "العنوسة" لأن البعد الاقتصادي إن كان سببا مباشرا لها، فإن هناك أسبابا كامنة أو متوارية أو غير مباشرة تؤدي إليها، وتشكلها وتؤثر فيها وهي تنمو وتستفحل، وتصل إلى حد بالغ الخطورة. هذه الظاهرة لا يمكن أن نفصلها عما يدور في مجتمعنا من قيم ثقافية وافدة أو متوارثة، غيرت النظرة العامة إلى الزواج، ونقلته من أساسه العظيم الذي يقوم على "المودة والسكن"، وأزاحته ليصبح في نظر كثيرين وكأنه "شر لا بد منه"، وبدأ الناس يتناقلون خبرات متوارثة تنظر إلى الزواج باعتباره "مقبرة الحب" وينسى هؤلاء أن البشرية جربت في مشوارها الطويل ممارسات أخرى حاولت فيها أن تتمرد على الزواج بطريقته المعهودة، لكنها فشلت فشلا ذريعا. فتوفيق الحكيم الذي اشتهر بأنه عدو النساء تزوج بشروط، والفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي كره النساء، لأنه رأى في طفولته أمه وهي تخون والده، ندم في آخر عمره على هذا الشعور الزائف الذي سيطر عليه حين قابل ممرضة طيبة حسناء وهو يرقد متهالكا في الثمانين من عمره بأحد المستشفيات. ومع ذلك فبعض هذه التصورات أو مسائل مشتقة منها أو قريبة الصلة بها لا تزال تؤثر على الثقافة العامة في مجتمعنا نحو الزواج، وشجع على ذلك انفتاح المجتمع وتفسخه، واشتداد الظروف الصعبة التي تحكم قبضتها عليه، والتي بلغت حد أن يسارع بعض الشباب في صعيد مصر إلى الزواج من أوروبيات طاعنات في السن بحثاً عن تأمين مستقبلهم المادي، ويرى بعض الشباب في بلاد الخليج العربي مثلا في العلاقات خارج الزواج ما يسري عنهم ويؤخر حاجتهم إلى تكوين أسرة. وجاءت بعض أفكار الحركة النسائية الحديثة لتزيد الطين بلة. ففي بلادنا هناك منظمات ومؤسسات تدعو إلى سن قانون يمنع تعدد الزوجات، ومنع الطلاق، دون النظر إلى أن تضييق الطلاق قاد مسيحيون إلى تغيير ملتهم أو ديانتهم، وجعل بعض الشباب يهرب من الزواج بدعوى أنه سجن أبدي، ودون تدبر في أن التعدد، وهو استثناء وليس قاعدة، سنة حياتية تراعي ظروف البعض واحتياجاتهم، ولا تؤسس بالضرورة في كل الحالات لوضع أشبه بما كان عليه "المعلم نونو" في رواية نجيب محفوظ الرائعة "خان الخليلي" الذي كان يحتفظ بأربع زوجات في شقة واحدة، لكل منهن غرفة تخصها، ويعشن معه في هناء ورضاء. من المؤسف أن يتعثر مجتمعنا على هذا الدرب ولديه إطار ديني معتدل ومحكم وواضح في تيسير الزواج، وخبرات وتقاليد شرقية نجحت نجاحا مبهراً على مدار قرون طويلة في القضاء على مشكلة العنوسة، بينما أخفقت النظريات الحديثة في حلها، لاسيما مع تحول التدين إلى ولع بالقشور وانغماس في الطقوس وتغافل عن الجواهر العامرة بالقيم والمعاني العميقة، وكذلك مع انبهار البعض لدينا بالنموذج الاجتماعي الأوروبي، مع أنه لم يكتمل إلى الآن ولم ينجح في مواجهة المعضلات التي تعترض طريقه، بالدرجة نفسها التي نجح فيها النموذج السياسي الغربي الذي أنتج الديمقراطية، وهي أرقى وأفضل نظم الحكم إلى الآن.