سكان أميركا الشائخون ودَيْنها القومي الضخم سوف يحدان من قدرتها على الانخراط في الشؤون الدولية... هذه هي الفكرة الجوهرية التي يتمحور حولها كتاب "القوة العظمى الهشة... قيادة أميركا العالمية في عصر العسر المالي"، لمؤلفه "مايكل ماندلباوم "الأستاذ بجامعة "جونز هوبكنز" وخبير السياسة الخارجية المعروف. وهو يقول إن القدرة المالية للولايات المتحدة على الاضطلاع بسياستها الخارجية تشهد تآكلا وانكماشاً مستمرين نتيجة لجسامة المسؤوليات التي تتصدى لها سواء في حقل الحروب الخارجية باهظة التكلفة، أو في مجال السياسة الداخلية كالرعاية الصحية ومعاشات التقاعد. فخلال عشرين عاماً من الآن سوف تضطر أميركا لإنفاق أموال من أجل خدمة ديونها الداخلية والخارجية أكبر بكثير من الأموال التي تنفقها على ميزانيتها العسكرية. لكن ذلك الشح المالي لن يخلو، كما يعترف المؤلف، من الفوائد، سواء للولايات المتحدة أو للآخرين. فبالنسبة للولايات المتحدة سوف يجعلها أقل قابلية للتعرض لأخطاء من نوع الخطأ الذي ارتكبه كلينتون عندما قرر توسيع نطاق حلف "الناتو" شرقاً، وهو خطأ فادح قاد للحرب بين روسيا وجورجيا فيما بعد. وكذلك الخطأ الرهيب الذي ارتكبه بوش عندما قرر غزو العراق. وماندلباوم لا يريد أن يبدو مبالغاً حين طرح فرضيته، لذلك نراه يؤكد أن الانسحاب الأميركي من العالم سوف يكون له حدود، لأن مشكلات العالم لا تنتهي، ولأن الخسائر التي ستترتب على ذلك الانسحاب ستطال الآخرين أيضاً. ويقول الكاتب إنه حتى مع افتراض وجود آخرين سوف يملؤون الفراغ الأميركي، فإنه ليس من المؤكد أن هؤلاء الآخرين سوف يتصرفون حيال القضايا والمشكلات التي تواجههم بدرجة من الحكمة والإيثار تفوق ما كان لدى أميركا. علاوة على أن من سيتقدم لشغل ذلك الدور سيكون غالباً دولا غير ديمقراطية كالصين وروسيا مثلا. وفي هذا السياق، يتساءل الكاتب: ماذا لو قررت روسيا مد مفهوم "الجوار القريب" غرباً؟ ألن تكون هناك في مثل هذه الحالة حاجة لاحتواء روسيا؟ وإذا ما افترضنا ذلك، فمن سيضطلع بهذه المسؤولية؟ وإذا ما قررت الصين التمدد من جانبها، فهل ستستطيع الدول الأوروبية مواجهتها؟ وينتقل المؤلف إلى نقطة أخرى هي استجابات الدول للدور الأميركي الأكثر محدودية في مجال السياسة الخارجية، فيقول إن تلك الاستجابات لن تكون موحدة بالطبع، وإن فكرة أن منطقة مثل الشرق الأوسط سوف تصبح أكثر هدوءاً وسعادة وتقدماً، إذا ما خرجت منها الولايات المتحدة، هي فكرة قد تروق لموسكو، لكنها بالتأكيد لن تروق لبكين. كما أن بعض أنظمة الشرق الأوسط سوف تستمر في إلقاء اللوم في مشكلات المنطقة على أميركا حتى إذا ما خرجت الأخيرة أو قلصت دورها. ويرى ماندلباوم أن الطريق لتقليص الدور الأميركي في الشرق الأوسط يكون من خلال تقليص اعتماد واشنطن على نفط المنطقة. أما إعادة توزيع النفوذ الأميركي العالمي فسوف تعتمد على ما إذا كانت الصين أو روسيا تمتلكان الرغبة الذاتية والإمكانيات المادية للاضطلاع بذلك النفوذ. ومن المؤكد أن دافعهما سيكون المصلحة وليس الضمير، علاوة على أنه عندما يبدأ سكان الصين يشيخون بسبب السياسات الحكومية في مجال الإنجاب، فسيعني ذلك تضخم الأعباء الصينية الداخلية، ما قد يؤثر بالتالي على رغبة بكين في الاضطلاع بالنفوذ العالمي الأميركي أو بقدر منه على الأقل. ويقول المؤلف إنه يحتمل أن تتمكن أوروبا الموحدة من الاضطلاع بهذا الدور، عندما تتحول لقوة عالمية عظمى بسبب تزايد نفوذها الاقتصادي، وهو أمر قد يضطر العالم لانتظاره طويلا. وينهي المؤلف كتابه بالقول إن أميركا ظلت طوال عقود تتصرف وكأنها "حكومة فعلية للعالم"، وكانت تدري وهي تقوم بذلك أن الدور الأول لأي حكومة هو حفظ النظام، أما عندما تقلص نفوذها وتنسحب من هذا الدور وتتصرف كحكومة عادية مثلها مثل أي حكومة أخرى، فإن العالم سيحصل على قدر أقل من الحكم ومن النظام. والمؤلف يبدو وكأنه يقول: دعونا نرى ماذا سيفعل العالم حينئذ... أي حينما تقلص أميركا دورها العالمي؟ سعيد كامل الكتاب: القوة العظمى الهشة... قيادة أميركا العالمية في عصر العسر المالي المؤلف: مايكل ماندلباوم الناشر: بابليك أفيرز تاريخ النشر: 2010