النتائج الممتازة التي حققتها ألمانيا خلال الربع الثاني من العام في مجال الصادرات والنمو، تضع هذا البلد على مسافة بعيدة، وخطرة، من الدول المجاورة، كما تهدد "اليورو"، بل والاتحاد الأوروبي أيضا الذي يرغب الكثيرون في بريطانيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص في رؤيته وقد مُني بالفشل. وهكذا يبدو نجاح ألمانيا وكأنه يثير التشاؤم في الأسواق خصوصاً أسواق تلك الدول التي اعتادت على التواكل، وذلك بدلا من أن يثير التفاؤل الذي لا نرى أثراً له سوى في ألمانيا ذاتها. هناك دوماً علاقة ارتباط قوية بين المنظور الوطني لمجتمع ما، وما يمكن أن يطلق عليه شخصيته الوطنية، المكونة جزئياً من تاريخه، ومعتقداته، وممارساته الدينية. فألمانيا كما هو معروف هي أرض المذهب اللوثري (نسبة إلى المصلح الديني مارتن لوثر)، وهو مذهب، يؤمن بأن الشر يجب أن ينال جزاءه، وأن هؤلاء الذين يهبهم الله النعم، فيضيعونها من خلال الإسراف وإهمال أداء الواجب -كما في حالة اليونانيين، وعلى ما يفترض أيضا الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين - لا يجب أن يتوقعوا أي رحمة. وأتباع هذا المذهب، يرون أن الكاثوليك اللاتين أكثر تسامحاً مع الخطيئة، وأكثر رغبة في الصفح، كما أنهم ينظرون بشكل إيجابي لأعمال الخير التي تنفع الفقراء، والكسالى. وخلال شهر يونيو الماضي، سجلت ألمانيا ارتفاعاً كبيراً في الصادرات، يعد الأعلى من نوعه منذ عام 1984، لدرجة أن فائضها التجاري القائم على الصادرات، يقترب حثيثا من المعدل الذي ساد قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية الدولية الحالية. ويشار في هذا السياق إلى أن ضعف "اليورو" النسبي، كان في صالح صادرات صناعة السيارات والصناعات الثقيلة في ألمانيا - التي تحجم عادة عن الشراء من دول منطقة "اليورو". في خطة "اليورو" الشاملة للتعافي، تصر ألمانيا على إجراءات تخفيض في العجز في مختلف دول منطقة اليورو، على الرغم من التأثير الركودي لذلك، على الاقتصادات الوطنية المختلفة، وعلى الرغم من أنه يؤدي إلى زيادة البطالة في أماكن مختلفة، وهو الأمر الذي يحمل تداعيات خطيرة على الاقتصادات الأضعف، وهي الدول التي حتى لو تم فيها - كما كتب جورج سوروس مؤخراً في نيويورك ريفيو " تحقيق أهداف الميزانية - كما تصر ألمانيا - فإنه قد يصعب تخيل الكيفية التي يمكن بها لمثل تلك الدول استعادة تنافسيتها... من دون أن تنخفض قيمة عملاتها الوطنية ". ويقول "سوروس" أيضاً إن انخفاض سعر تبادل العملة، شرط ضروري للمنافسة في مجال الصادرات، علاوة على أن عملية التسويات المالية المطلوبة في تلك الخطة سوف تتطلب تخفيضاً في الأجور والأسعار، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى الانكماش. وإذا كان هناك تناقص مستمر في قيمة "اليورو"، الذي انخفضت قيمته بشكل كبير أمام الدولار في شهر يونيو، فإن ذلك سيكون في صالح صادرات منطقة اليورو. بيد أن ذلك، ومن دون حدوث نمو اقتصادي، سيكون سبباً أيضا في أن "الوزن النسبي (لديون تلك الدول) سيستمر في النمو أيضا". وهذا ينطبق ليس فقط على الدين الوطني، وإنما على القروض التجارية الموجودة لدى البنوك (حتى أكثرها إحجاماً عن الإقراض، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الضغوط الدافعة لتراجع الاقتصاد). من المعروف أن ألمانيا كانت من أكثر الدول مساهمة من النواحي المادية في إنشاء الاتحاد الأوروبي منذ بداياته الأولى، عندما كان لا يزال يطلق عليه اتحاد الفحم والصلب عام 1951. (في حين كانت فرنسا هي القوة الدافعة الاقتصادية والسياسية لبناء" أوروبا" من خلال اختراع مؤسساتها ودفع نموها قدما للأمام). بيد أن الأزمة الاقتصادية الحالية قد أحيت شيئاً في ألمانيا كانت تخشاه منذ تلك الأيام التي قال فيها الروائي والمعلق" فرانسوا مورياك" عنها إنها يعجب بها إلى الدرجة التي يتمنى لو كانت هناك دولتان منها في العالم. وهذا السبب تحديداً، هو الذي كان قد دفع رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، والرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، لمعارضة توحيد الألمانيتين في دولة واحدة. ومنذ توحيدها، شقت ألمانيا طريقها بتعقل وذكاء وأريحية في ذات الوقت، وخصوصاً عندما ضحت بعملتها المارك الألمانية من أجل اعتماد اليورو عام 2001، كعملة موحدة في كافة الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي. والأزمة الحالية، أعادت إحياء مخاوف ألمانيا من التضخم الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من تراثها العاطفي الوطني. كما شهدت هذه الأزمة أيضاً نوعا من الغطرسة المستجدة في الخطاب الألماني ونوعاً من التعالي من جانب بون في التعامل مع الدول ذات الاقتصادات الأصغر. منذ إنشاء الاتحاد الأوروبي، ومنذ السماح بإعادة تسليح ألمانيا داخل إطار"الناتو"، كان الألمان الطيبون يتباهون بأن دولتهم ليست لها سياسة خارجية مستقلة، وإنهم كانوا يمارسون السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. ليس هذا فحسب، بل وليس لهم سياسة عسكرية وطنية، كما لا يمتلكون قيادة عليا وطنية، ويخضعون لقيادة "الناتو". ولكن ما يحدث حالياً، تحت ضغط، أن العديد من الألمان قد توصلوا إلى ما يمكن اعتباره سياسة اقتصادية جديدة، وهي سياسة أتت إليهم بسلاسة ودون أن يبذلوا مجهوداً من أجلها. في نفس الوقت نجد أن الآخرين، بما فيهم بعض الألمان، يشعرون بعدم الارتياح بسبب تلك المعاملة اللامبالية للإنجازات التي حققتها أوروبا في بناء اتحادها، وسوقها الموحدة، وعملتها المشتركة، على مدى الستين عاما الماضية. وهو إنجاز جماعي ليس له من نظير في التاريخ المعاصر، ويمثل قيمة ينبغي المحافظة عليها على الدوام. -------- ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"