تتأثر الصحة العامة للإنسان، بجوانبها المختلفة: البدنية، والنفسية، والعقلية، والاجتماعية، بالعديد من العوامل والظروف المحيطة، والتي تعرف بمحددات الصحة (Health Determinants). وتتنوع هذه العوامل والظروف لتشمل التركيبة الوراثية للشخص، وصحة الأم وغذاءها أثناء الحمل، والظروف البيئية، والأمراض المعدية، والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، والسلوك الشخصي أو نمط الحياة، وغيرها. ورغم أن هذه العوامل تساهم بدرجات متفاوتة في تحديد الحالة الصحية العامة، فإن السلوك الشخصي أو نمط الحياة، وخصوصاً منذ بدايات العصر الحديث، يشهد تزايداً في مقدار تأثيره السلبي على الحالة الصحية. ففي الكثير من الأمراض غير المعدية، نجد أن السلوك الشخصي يعتبر من أهم عوامل الخطر المؤهلة للإصابة بتلك الأمراض، مثل أمراض القلب والشرايين وما ينتج عنها من ذبحة صدرية أو سكتة دماغية، والسمنة وزيادة الوزن، والسكري، وغيرها الكثير. وفي ظل حقيقة أن الأمراض غير المعدية تقتل حوالي 35 مليون إنسان سنوياً، ومن الممكن تجنب 40 بالمئة منها من خلال إجراءات الوقاية المعتمدة في جزء كبير منها على تغيير السلوك الشخصي... أصبحت نوعية ونمط الحياة تحتل مكانة خاصة في عالم الطب الحديث، ضمن الجهود الرامية لخفض الثمن الإنساني الناتج عن الأمراض غير المعدية. وتتضح فداحة ذلك الثمن من احتلال أمراض القلب والشرايين لرأس قائمة أسباب الوفيات دون منازع، حيث تعتبر القاتل الأول لأفراد الجنس البشري على الإطلاق. فسنوياً يلقى أكثر من 17 مليون شخص حتفهم بسبب أحد أمراض القلب والشرايين، مما يشكل 29 في المئة من مجمل الوفيات العالمية سنوياً، أو واحدة تقريباً من كل ثلاث وفيات. ومن الـ17 مليون وفاة تلك، نجد أن 7 ملايين هي نتيجة الذبحة الصدرية، من جراء أمراض الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب، و6 ملايين وفاة أخرى نتيجة السكتة الدماغية، من جراء أمراض شرايين المخ. وهو الوضع الذي يتطابق لحد كبير مع الأمراض السرطانية، والتي شهدت زيادة مطردة في معدلاتها خلال العقود القليلة الماضية، وفي الوفيات الناتجة عنها، بدرجة جعلت الأمراض السرطانية من الأسباب الرئيسية للوفيات بين أفراد الجنس البشري، حيث تحتل حالياً المرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات وخصوصاً بين شعوب الدول الصناعية الغنية. وهي الوفيات التي يتوقع لها أن تزداد بنسبة 50 في المئة بحلول عام 2030، مقارنة بما هي عليه الآن، لتزداد الوفيات الناتجة عنها من 8 ملايين وفاة سنوياً في الوقت الحالي إلى 12 مليون وفاة بعد عقدين فقط. ويمكن تعريف نمط أو نوعية الحياة، على أنه مجموعة السلوكيات الشخصية والصفات الحياتية خلال فترة زمنية معينة، مثل نوعية العلاقات الاجتماعية، ونمط الاستهلاك، وأشكال الترفيه، ودرجة التوتر والقلق أو الراحة النفسية والاطمئنان الداخلي، والعادات الغذائية، ومقدار الحركة والنشاط البدني اليومي، وإدمان بعض المواد الكيميائية، كالكافيين والنيكوتين، أو الكحوليات والمخدرات، وغيرها من السلوكيات المكونة للعادات والممارسات اليومية. ويعتبر التدخين من أفضل الأمثلة لتوضيح العلاقة بين السلوك الشخصي وبين الحالة الصحية. حيث يتسبب التدخين حالياً في مصرع خمسة ملايين شخص سنوياً، وتشير التقديرات المستقبلية إلى أنه بحلول عام 2020، سيقتل التدخين عشرة ملايين شخص كل عام، إذا لم يتم عكس الاتجاه الحالي، المتمثل في الارتفاع المستمر في أعداد المدخنين. فمن بين 1.3 مليار مدخن حالياً، سيتسبب التبغ خلال السنوات والعقود القادمة، في الوفاة المبكرة لأكثر من 650 مليوناً من مستخدميه. ومعظم هذه الوفيات سيكون بسبب سرطان الرئة، أكثر الأورام الخبيثة انتشاراً وفتكا بضحاياه، والمسؤول عن أكثر من 13 في المئة من مجموع حالات الإصابة، وعن 20 في المئة من مجمل الوفيات الناتجة عن جميع الأمراض السرطانية، وهي الوفيات التي يقع معظمها بين المدخنين. وإذا ما انتقلنا لصفة أخرى تميز نمط أو نوعية الحياة، وهي مقدار النشاط البدني اليومي، فسنجد علاقة أخرى مباشرة مع تدهور الصحة العامة، والإصابة بطائفة متنوعة من الأمراض والعلل. ولدرجة أن منظمة الصحة العالمية أصبحت تصنف الكسل البدني على أنه مشكلة صحية عالمية، خصوصاً في ظل الدراسات التي تظهر أن 60 في المئة من أفراد الجنس البشري لا يمارسون الحد الأدنى من النشاط البدني، الكفيل بوقايتهم من الأمراض، وتحسين صحتهم بوجه عام. ويعود هذا الوضع إلى تراجع النشاط البدني أثناء العمل، حيث أصبحت غالبية الوظائف مكتبية لا تتطلب مجهوداً يذكر، وحتى أوقات التسلية والترفيه أصبحت هي الأخرى تُقضى من خلال أنشطة لا تتطلب مجهوداً بدنياً. وغالباً ما يترافق نمط الحياة الذي يميزه الكسل البدني، بتدهور وانخفاض نوعية الغذاء، وزيادة استهلاك الأطعمة المحتوية على سعرات حرارية مرتفعة، وهي العوامل التي أدت مجتمعة لظهور الوباء الحالي من السمنة. هذه الأمثلة توضح جميعها مدى أهمية نوعية ونمط الحياة في التمتع بالصحة والعافية، أو في الإصابة بالأمراض والعلل، وهي الأهمية التي يعتقد البعض أنها تتساوى أو تفوق أهمية التركيبة الوراثية، وتجعل من تغيير السلوك الشخصي أحد أهم التدابير على صعيد الوقاية من الأمراض غير المعدية، والتي شهدت زيادة هائلة في معدلات الإصابة خلال العقود القليلة الماضية.