صدمتني وفاة الصديق الكويتي الدكتور أحمد البغدادي، كما صدمتني من قبل وفاة الدكتور نصر حامد أبو زيد. ومع أنهما عانيا من المشكلة نفسِها (أي الصِدام مع تيارات الإسلام الاُصولي والسياسي)؛ فإنّ البدايات ما كانت متشابهة، كما أنّ "المشروع" مختلف. فقد بدأْتُ بالقراءة للدكتور البغدادي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقد كان معنياً بالتراث السياسي الإسلامي. وبسبب تشابُه الاهتمام؛ فقد جذبتني دراساتُهُ في هدوئها وعلميتها ودقْتها. وقد علمتُ قبل أن أتعرف عليه شخصياً عن طريق الراحل الدكتور أحمد الربعي، أنّ البغداديَّ كان قريباً من "الإخوان"، لكنه استقلّ عنهم، وانصرف للدراسات والبحوث الأكاديمية. ثم التقيتُهُ في أواخر الثمانينيات، وتناقشْتُ معه في دراسةٍ ونصّ. أمّا الدراسةُ فكانت عن الفقه الدستوري في الإسلام، وأمّا النصّ فكان تحقيقاً جديداً للأحكام السلطانية للماوردي. والدكتور البغدادي يُعالجُ النصّ السياسيَّ الإسلامي من وجهة نظر أستاذ العلوم السياسية، لذلك فهو يهتمُّ بأمرين: المنظومة السياسية التي ظهر النصُّ السياسيُّ الإسلاميُّ في سياقاتها، والتوظيفات الحديثة الممكنة للنصوص السياسية الكلاسيكية. ولا أذكُرُ الآن إن كان البغدادي قد دخل على خطّ الجدال مع الإسلاميين (إخواناً وسلفيين) قبل غزو الكويت أو بعدها. لكني بدأتُ اقرأُ له في أواسط التسعينيات مقالاتٍ وأُشاهد مقابلات تلفزيونية، بدا فيها عنيفاً تُجاه الخطاب الديني والسياسي للإسلاميين الحزبيين وغير الحزبيين. وكان الدكتور نصر حامد أبو زيد وقتَها يُُصارع الإسلاميين بمصر في مجالين: مجال خطابهم الديني والسياسي، ومجال مشروعية عمله في قراءة النصّ القرآني قراءةً أدبيةً وتاريخية. والمعروف أنّ الإسلاميين المصريين ما استطاعوا الصمود في وجهه في هذين المجالين، فَجرُّوه إلى المحاكم بتهمة الكفر، وتوصلوا إلى قرارٍ أوليٍ بتطليق زوجته منه! لكنّ أبو زيد ظلَّ مصراً على الاختلاف مع خصومه في مسائل السياقات وتأويلات النصوص، وما قاده الجدال إلى أبعد من ذلك، من مثل إعادة قراءة قضايا الوحي والنبوة، والصورة السائدة عن التاريخ الإسلامي الأول، وظلَّ مقتنعاً بإمكان قراءة القرآن والسيرة النبوية قراءةً تنويريةً وإصلاحية. وهي الاُمور التي ما توافرت ظروفُها ولا شروطُها في حالة البغدادي. وربما سَّهلَ الأمر على الراحل أبو زيد، وأعاد إليه بعض التوازُن، اضطراره للهجرة إلى أوروبا، حيث انصرف لدراساته، وانتظمت حياتُهُ من جديد. ولست أعرفُ التفاصيل التي قادت الدكتور البغدادي لهذا الصدام المدوّي مع إسلاميي الكويت، ثم مع ما يُعتبر "معلوماً من الدين بالضرورة". إنما الذي نعرفُهُ جميعاً، أنّ الأجواء الكويتية أكثر ضيقاً وحرارةً ونزاعاً وصوتاً عالياً مقارنة بالأجواء المصرية على قتامتها وانقساميتها. وقد بدا لي البغدادي، في بعض ما نشره في الصحف قبل النزاع في المحاكم، عنيفاً عنفاً كان يحسبُهُ موجَّهاً إلى "خطاب" الإسلاميين، لكنه في الحقيقة مضى كالسهم باتجاه إعادة قراءة القديم كلّه (نصاً وتاريخاً) قراءةً حداثيةً إنكارية. وقد قابلْتُهُ في أحد المؤتمرات في أواخر التسعينيات، وأعطيتُهُ مقالةً لي عن "قراءات الاستشراق الجديد للقرآن" باعتباره نصاًً سريانياً مترجماً، فنظر فيه نظرةً سريعةً، ثم قال لي: أعرفُ بعضَ ما ذكرْتَهُ من مصادره، لكنّ توفيقيتك وتسويتك لن تقودَك إلى شيء، فهم يكرهونك مثلما يكرهونني أنا وخليل عبد الكريم وعزيز العظمة وأركون! ولستُ هنا في معرض تقييمٍ أخلاقيٍّ أو دينيٍّ لما كتبه الدكتور أحمد البغدادي أو كتبه خصومه. فقد قطعوا معه قبل أن يقطع معهم، كلَّ الخطوط الحمر والزُرق والصُفْر! بيد أنّ العقود الأخيرة كانت من القتامة والانقسام في المجالات الفكرية والدينية والسياسية، وفي سائر أنحاء العالم العربي، بما يترك "الحليم حيران" كما كان المسلمون الأوائل يصفون "الفتنة". ولنتذكَّر أن العقدين الأخيرين بدآ بغزو العراق للكويت، وغزو أميركا للخليج، ثم حوصر العراق وجُوِّع، ثم غزت "القاعدة" أميركا، وغزت أميركا أفغانستان والعراق، وخربت عشرات الدول العربية والإسلامية، فازدادت الاُصولياتُ تعْملُقاً، واتخذت أبعاداً جماهيريةً أُسطوريةً، وصار الحجابُ بل البُرقُع أساس الدين والدنيا، كما صار كُلُّ مَنْ يقول شيئاً مهما بلغت براءتُهُ منشقّاً متّبعاً لأقاويل المستعمرين والمستشرقين وعُتاة الصليبية المُعادية للإسلام! وما كان من رأْيي في الكتابات الكثيرة، صحفيةً وغير صحفية؛ التربيتَ على الجراح، لكني ما استطعتُ تجاهُلَ الإسلاموفوبيا التي توازتْ وترافقت في الغرب والشرق مع التعملُق الأُصولي في ديارنا. أمّا صديقي الدكتور أحمد البغدادي فقد أراد التحرر من تأويلات الإسلاميين للنصوص، ثم تجاوز ذلك إلى نقد الفهم السائد تاريخاً وحاضراً، فاصطدم بالطبع بالإسلاميين، ثم اصدم بالمناهج الدراسية الكلاسيكية، ومضى وراء مناهج القراءة المعاصرة والجذرية للنصّ والتاريخ معاً. وما فارقته معارفُهُ التراثية والحديثة، وإنما فارقه التهيُّبُ- الذي صاحب ويصاحب كثيرين منا- وفارقته ثوابتُ التفريق بين الإسلاميين والإسلام. فمن نلوم: هل نلوم العقائديين الذين اعتبروا -شأن الحكام التقدميين العرب- أنّ طليعيتهم تبرر لهم كل شيء، أم نلومُ البغدادي وزملاءه الذين أرادوا أن يبقوا صادقين مع أنفسهم ومع بني قومهم؟! لقد نشب في العقدين الأخيرين صراعٌ مستميتٌ على الإسلام، وتجلّى بأشكالٍ حربيةٍ وإعلاميةٍ وسياسيةٍ وفكرية، وشاركت فيه عدةُ جهات: الأميركيون (والأوروبيون)، والإسلاميون، والأنظمة، والمثقفون المسلمون. وكان المثقفون هم الفئة الأضعف والأقلّ تأثيراً، لأنهم ما كانوا مشاركين في الصراع على السلطة. وكان منهم من اعتبر أنّ المهمةَ الآن استعادة التوازُن، وصَون الاستقرار، وعدم قطْع الصلة بالجمهور، والخوض مع الإسلاميين في نقاشٍ وحوارٍ بشأن المسائل الكبرى باعتبارنا ننطلقُ من مواقع مشتركة. أمّا الدكتور أحمد البغدادي وفريقه، فقد رأى أنّ الإسلام الذي يحمله الأصوليون المسيطرون على الجمهور يملكُ بوجوه ضعفه ونشازه ورؤيته الاختزالية للإسلام والعالم، ما كان يسمّيه الأستاذ مالك بن نبي: "القابلية للاستعمار". لذلك فقد اعتبر أنّ مهمته تظلُّ تحريريةً وتنويريةً، وانتصاراً للمجتمع المدني، والحريات الفردية، والدولة الحديثة. أمّا الصراع فما انتهى وإنما تطامنت أمواجُه. وأما التفكير الإسلامي ففي محنةٍ كبرى بشأن الأمانة والجدوى ورؤية المستقبل. ورحم الله الدكتور البغدادي والدكتور الربعي والدكتور أبو زيد، الذين ناضلوا بدون خوفٍ ولا وَجَل، إلى أن غَلَبهم المرضُ والموت: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسبابُ والموتُ واحدُ