- بعد حوالي أسبوعين تقريباً -أي قبل حلول عيد الفطر- يبدأ تنفيذ القرار الأميركي بـ"الانسحاب" من العراق، وكلمة "انسحاب" نفسها يجب النظر إليها بدقة، لأنها تخص فقط ما يسمى "القوات القتالية" بينما يستمر حوالي 50 ألف جندي في بلاد الرافدين بالإضافة إلى قوات خاصة تتبع الشركات الأمنية الخاصة -مثل "بلاك ووتر" وأخواتها- والتي يتزايد عددها الآن بكثرة في مناطق النزاع حول العالم من أفغانستان إلى الصومال. ومن المؤكد أن تحاول القوات الأميركية المتبقية، العمل من خلف الستار بعض الشيء، وتركز على تدريب القوات العراقية، ليس فقط لكي تجعل هذه القوات أكثر كفاءة، ولكن -وهذا هو أهم بنود الأجندة السياسية الأميركية- تخفيف العبء المباشر على هذه القوات، وتخفيض خسائرها البشرية ذات الثمن المرتفع داخلياً في الشارع الأميركي. بمعنى مبسط للغاية: أحد أهداف ما يسمى بالانسحاب -وبلا شك أهمها- هو أن تقوم القوات العراقية بعملية الدرع الواقي للوجود الأميركي بالعراق، بوعي أو بدون وعي. لذلك فإن قلق طارق عزيز -أحد أقطاب نظام صدام حسين- مما يصدقه على أنه انسحاب أميركي يبدو غريباً، على أساس أن ما يسمى انسحاباً هو تخفيض للقوات القتالية وإعادة تمركزها. قد تترك إعادة هذه الهيكلة العسكرية العراق لـ"الذئاب" كما يسمي عزيز زعماء الطوائف المحلية المتصارعة، ولا شك أن الفشل في تكوين حكومة عراقية بعد خمسة أشهر من الانتخابات، يعطي لكلامه بعض المصداقية، كما أن زيادة عدد القتلى -مثلاً 30 قتيلاً في يوم واحد: الأحد 8 أغسطس- يثبت أن "الذئاب" تزداد وحشيتها عشية التغيير في الوجود العسكري المباشر في المدن الرئيسية. لكن الإيحاء بأن استمرار الاحتلال بل زيادة قواته هو الحل لمجازر العراق الحالية وإنقاذ دولته، هو تماماً عكس المطلوب. والواقع أن إنهاء الاحتلال هو من النقاط التي تتفق عليها الغالبية الساحقة من الشارع الأميركي، ومعظم الشارع العربي، ومنطق هذا التفكير في "الشارعين" هو بسيط وواضح: فهذا الاحتلال المكلف -بشرياً ومالياً- فشل في تحقيق أهدافه الأساسية. وهذا هو فعلاً بيت القصيد كما تقول اللغة العربية. فإذا كان هناك شبه اتفاق عام على أن أوضح إنجازات هذا الاحتلال هو التخلص من نظام صدام حسين السلطوي، ألم يصبح هذا الاحتلال أكثر دموية؟ تقول الإحصائيات الأميركية الرسمية إنه منذ وصول أوباما إلى الحكم في يناير 2009 بلغ عدد القتلى بين العسكريين الأميركيين 186 قتيلاً، أما المجموع الكلي منذ بداية الاحتلال في مارس 2003، فهو 4414 قتيلاً، بينما تختلف التقديرات فيما يتعلق بالمصابين العسكريين، حيث تقول التقارير الرسمية الأميركية إنهم 31952 عسكرياً حتى الأسبوع الأول من أغسطس، بينما تقدرها مصادر أميركية أخرى بأنهم يزيدون على 100.000 عسكري مصاب، وتبلغ خسائر العراق بين قتيل ومصاب من المدنيين والعسكريين حوالي 1.2 مليون عراقي. وبالنسبة للخزينة الأميركية، فإن مصاريف هذه الحرب حتى بداية هذا الشهر وصلت إلى 765 مليار دولار، وهو ما يعادل ميزانية دولة مثل اليمن لعدة أعوام أو عدة دول من إفريقيا جنوب الصحراء. ما هو المطلوب حالياً؟ كلما أسرعت القوات الأميركية بالخروج من المستنقع العراقي، كلما كان هذا أفضل بالنسبة للأميركيين والعراقيين على السواء، وحتى يقوم هؤلاء الأخيرون بتضميد جراحهم، أو على الأقل وقف نزيفها، ثم البدء فوراً في عمل كشف حساب عن أساس ونتيجة هذا الاحتلال يتوجه للإجابة على أربعة أسئلة على الأقل: 1- ما هو بالضبط الخطأ في قرار الاحتلال؟ هل كانت المعلومات نفسها خاطئة أم كان هناك كذب وتضليل على أعلى مستويات القرار؟ وبالإضافة إلى الضغط الذي مارسته مجموعة بوش الابن على CIA، لإيجاد المعلومات اللازمة لتبرير قرار الغزو... يقال أيضاً إن بعض الدوائر الإسرائيلية ساهمت بطريق مباشر في الدفع نحو هذا القرار الخاطئ. 2- رغم إجراء الانتخابات في العراق وتحقيق بعض الآليات الأخرى، فإن الديمقراطية كمضمون، لا تزال غائبة في هذا البلد، لماذا هذا الفشل الذريع في أولويات قرار الغزو والاحتلال؟ 3- وأسوأ من هذا، لماذا انفرط العقد تماماً في العراق، وأصبحت إدارة شؤونه اليومية شبه مستحيلة، وبدلاً من أن نرى العراق كوطن، أصبح مجرد مجموعة طوائف متقاتلة، مع فساد يهدد ثروات هذا البلد؟ 4- ثم ماذا عن نفوذ إيران الإقليمي، هل تم تقليصه أم بقي على حاله وربما ازداد قوة؟ ورغم أن الأسئلة تتزايد في ذهني، فليس هناك متسع من المكان لتفصيلها، لكن لنبدأ كعرب، تقييم مبدأ "تغيير نظام الحكم" من الخارج.