أرَّخ ابن خلدون في مقدمته لنهاية الحضارة الإسلامية بقوله: "وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب والله وارث الأرض ومن عليها". وحسب "توينبي"، في كتابه "مختصر دراسة التاريخ"، فإن الحضارات تتعرض للفناء والاندثار، مثلها مثل الأفراد والتنظيمات والدول، فليس من أحد محصن ضد الزوال. ويصل توينبي في إحصائياته إلى 600 مجتمع بدائي انبثقت منها 32 حضارة اندثر معظمها. وهو أمر اختلف معه "شبنجلر" الذي رأى أن كل حضارة كيان قائم بذاته، وأن الحضارة ظاهرة متفردة، تتخشب وتتيبس مفاصلها، ثم تكون هشيماً تذروه الرياح. ووقّت شبنجلر لنهاية الحضارة الغربية بعنوان صارخ: "أفول الغرب"، وهو موت لا راد له، ولن يحدث في عقود، بل على امتداد القرون القادمة، وأهم مؤشراته "التمدد الإمبراطوري" على حد تعبير المؤرخ الأميركي "بول كيندي" وهو يدرس انهيار القوى الكبرى على امتداد القرون الخمسة الماضية، في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى". وحسب "كارنو دي ساد" فإن القانون الثاني في التيرموديناميك لا يبقى على علاقة في الكون، ومصير الجميع إلى نهاية وفناء، وينطبق هذا على كل أنواع التراكيب، إذ يكون لسقوطها دوي عظيم حسب تعبير الإنجيل. وحسب "ويل ديورانت"، صاحب كتاب "قصة الحضارة"، فإن الحضارة نسيج اجتماعي معقد من الاقتصاد والثقافة والدين، يمثل نتاج تعلم كل جيل، فإذا توقف أو امتنع أو حيل بين الجيل وبين تعلمها، لم يعد حضارة بل بربرية يتطاحن أهلها بالحجارة والعصي، كما رأينا في مذابح دجلة والبوسنة وغروزني وبرلين وخلال الحربين الكونيتين. ويعتبر القرآن أن المجتمعات تموت كما يموت الأفراد؛ جاء هذا في أكثر من موضع: "لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون". وهذا اللون من الموت يختلف عن موت الأفراد الذي وصفه القرآن بتعبير مختلف: "كل نفس ذائقة الموت". فالحديث هنا هو مواجهة الفرد حالة الفناء الذاتي، أما موت الأمم فهو حالة مدهشة، لا يستطيع أحدنا الزعم بأنه رأى مشهداً مثيراً بهذا الحجم! وكما يسم الموت الفرد بمظاهر لا يخطئ فيها أي مبصر، في مؤشرات دالة، كذلك كانت الحالة مع موت الأمم واضمحلال المجتمعات وانهيار الحضارات! ويذهب "توينبي" إلى وصف نهضة الأمم بصور متباينة، في حين تتوحد صور الموت بين الحضارات، كما في ألوان الشعر المختلفة في سن الشباب بين أحمر وأسود وأشقر، وعودته للبياض قبل الموت عند كل الأعراق والأجناس، في شهادة على وحدة المصير. ويرشدنا علم البيولوجيا إلى أمرين واضحين في موت الأفراد؛ الأول في توقف الوظيفة؛ فنعرف أن صاحبها فارق الحياة. والثاني في تحلل الشكل، وتناثر الأجزاء، وبذلك يبدأ الموت مع توقف النشاط المميز للكائن. وهذا التحليل ينطبق على المواد والأحياء والعلاقات؛ فالطاولة لا تبقى طاولة إذا فككنا أجزاءها، ولو بقيت موادها الخام. وكذلك السيارة والطائرة والكمبيوتر. وتظهر الوظيفة على نحو مميز بترابط الأجزاء ووحدة العضوية. ومن أطرف الأمور تلك العلاقة المقلوبة بين دقة الوظيفة وتفاهة العطب، إذ تكفي جلطة لموت إنسان، وانقطاع الأكسجين في احتراق الدماغ، وفيروس تافه لإنهاء حياة فيلسوف، وطلقة سخيفة من معدن قاصر للقضاء على غاندي. هذا الجدل بين الموت والحياة يسري كقانون غامر ساحق ماحق لكل جنبات الوجود. فهل نحن أمة ميتة على شاطئ الزمن، أم أمة عظيمة قدوة للغادي والرائح؟