انسيس جاي" السفيرة البريطانية لدى لبنان نفسها في موقف صعب. ولاشك أنها ما كانت ترغب أبداً في قراءة ما كتب عنها في الصحف البريطانية بشأن التصرف الذي زج بها في هذا الموقف. ومع ذلك، فإنني متأكد من أنها ستبقى في وظيفتها التي تقوم بأداء مهامها بكفاءة واقتدار منذ 2006. غير أنها ينبغي أن تدرك في ذات الوقت أن فرصها المستقبلية في سلك وزارة الخارجية قد باتت محدودة، بشكل كبير. لقد سبق لي أنا وزوجتي أن زرنا "جاي" عندما كانت سفيرة في اليمن سنة 2001، وتناولنا طعام العشاء معها ومع زوجها الفرنسي الذي بدا مشغولا في ذلك الوقت بمتابعة الأفلام والتلفزيون. وفي الحقيقة أننا قد أحببناها، وأحببنا أسلوبها الذي يتسم بالحيوية، وعدم اللف والدوران، والقائم على الصراحة التامة، في مقاربة الشؤون الدبلوماسية، وسررنا لأن هذه المرأة الذكية والباعثة على الإعجاب حقاً، قد وصلت إلى ذلك المنصب الرفيع. وأتذكر أنني قد شعرت ببعض القلق في ذلك الحين حول أمنها الشخصي وأمن العاملين في سفارتها. فعلى رغم أنها كانت من الشخصيات المعروفة في صنعاء، إلا أن الأمر كان لا يخلو من خطر على اعتبار أن الإنجليز والأميركيين لديهم دائماً أعداء محتملون، كما أنهم كانوا قد تعرضوا بالفعل للعديد من الهجمات. وفيما بين هذين المنصبين المهمين اللذين تولتهما "جاي" في العالم العربي، كانت أيضاً هي الاختيار الملهم لوزارة الخارجية البريطانية كي تترأس الإدارة التي أنشأتها حديثاً للانخراط مع العالم الإسلامي. وأشك في أن عملها في هذا القسم الجديد -الذي يجسد مفهوماً إيجابيّاً وتقدميّاً في حد ذاته- هو الذي زج بها في المشكلة الأخيرة التي تعرضت لها. ففي الخامس من يوليو الماضي، وضعت السفيرة البريطانية في بيروت مقالا جدلياً للغاية في الموقع الخاص بوزارة الخارجية، أشادت فيه بالشيخ محمد حسين فضل الله، المرجع الشيعي الراحل، الذي يقال إنه كان ذات يوم بمثابة الزعيم الروحي لـ"حزب الله" اللبناني. وكتبت السفيرة في ذلك المقال: "لقد رحل الشيخ فضل الله عن عالمنا بالأمس، وفقد لبنان برحيله جزءاً من كيانه.. وهذا الرحيل سيكون محسوساً ليس في لبنان فحسب وإنما فيما وراء سواحله أيضاً. وإنني أتذكر جيداً عندما رُشحت لتولي منصب سفيرة بريطانيا في لبنان، أن أحد معارفي من المسلمين قد قال لي إنني محظوظة للغاية لأنه ستتاح لي الفرصة لمقابلة الشيخ فضل الله. وكان الرجل على حق تماماً فيما قاله لي". ولم تكتف "جاي" بذلك بل أضافت قائلة: " إن العالم في حاجة إلى المزيد من الرجال من عينة الراحل.. رجال لديهم الرغبة في تعزيز التواصل بين الأديان، والاعتراف في ذات الوقت بحقائق العالم المعاصر، ولديهم إلى جانب ذلك المقدرة على تحدي القيود العتيقة". وبسرعة أدلى مكتب وزارة الخارجية البريطانية ببيان متوازن صيغ بأقصى قدر من العناية تعليقاً على ما كتبته "جاي" جاء فيه: "لقد كانت السفيرة تعبر عن رأيها الشخصي في الشيخ فضل الله. وهي فيما كتبته كانت تصف الرجل الذي عرفته. ولقد رحبنا بتلك الآراء التقدمية عن حقوق المرأة والحوار بين الأديان التي كان يعبر عنها الشيخ، ولكن كانت لدينا في ذات الوقت اختلافات عميقة وبالذات حول التصريحات التي كان يهاجم فيها إسرائيل". وقد شعر "ويليام هيج" وزير الخارجية الجديد بالقلق بشأن ما كتبته السفيرة، ولذلك تم شطبه من موقع الوزارة في الثامن من يوليو. وأستطيع التخمين أن السفيرة قد تلقت توبيخاً من الوزير وهو ما دفعها ربما لكتابة اعتذار في التاسع من الشهر نفسه قالت فيه: "لقد قضيت معظم فترات حياتي العملية في العالم العربي في محاربة الإرهاب، ومقاومة التطرف والتمييز، اللذين يشكلان وقوداً له. وإنني لأشعر بالأسف أن محاولتي للاعتراف بالأهمية الروحية للشيح فضل الله والآراء التي كان يعبر عنها في الجزء الأخير من حياته، قد ساعدت للأسف في تعميق الانقسامات في هذا الجزء المعقد من العالم". ولا شك أن السفيرة عندما كتبت هذا الاعتذار كانت في ذهنها تلك التعليقات الغاضبة التي أدلى بها السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة "رون بروسر"، وقال فيها: "في عام 1983 اغتال الشيخ فضل الله، الـذي ينكر حدوث الهولوكوست، 300 جندي أميركي وفرنسي في بيروت... ولذلك فإننا دهشنا في الحقيقة عندما قرأنا ما كتبته السفيرة البريطانية في لبنان عن أن العالم في حاجة إلى المزيد من الرجال من أمثاله". ومن المعروف أن الإسرائيليين لا يترددون في اغتنام مثل هذه الفرص السانحة. ولاشك أن هذه الضجة التي أثارتها آراء السفيرة، تكشف عن مشكلة عميقة يواجهها الدبلوماسيون البريطانيون العاملون في منطقة الشرق الأوسط فيما يتعلق بالتعامل مع كل ما له صلة بـ"حزب الله" في لبنان، و"حماس" في غزة. فعلى رغم أن المنظمتين لديهما أجنحة عسكرية عنيفة استخدمت بالفعل ضد إسرائيل والغرب، إلا أنهما أصبحتا اليوم منظمتين سياسيتين، ولديهما ممثلون وأدوار ضمن النسيج السياسي في البلدين. والسفيرة "جاي" كان من ضمن واجباتها أن تتعرف على، وتعمل مع السياسيين الممثلين لـ"حزب الله" في بيروت، الذين يديرون بكفاءة شبكة من الخدمات الاجتماعية ومركزا للشؤون العامة. وأما فيما يتعلق بـ"حماس" فإن بعض السياسيين في بريطانيا ذاتها دعوا إلى انخراط رسمي مع "حماس" للتوسط من أجل التوصل لتسوية سلمية في الشرق الأوسط. وهناك نقطة أخيرة ينبغي توضيحها هي أن احترام السفيرة للشيخ فضل الله كان قائماً على أساس أنه رجل يدعو للحوار بين الأديان والمذاهب داخل الدين الواحد، كما كانت لديه آراء تقدمية حول دور الإسلام في عالمنا العلماني، وفي ذات الوقت ظل يدافع بشكل مستمر عن حقوق المرأة، علاوة على أنه كان من أوائل رجال الدين في الشرق الأوسط الذين أدانوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.