يعالج "المشروع النهضوي العربي" في الفصل الخاص بالديمقراطية عدة إشكاليات منها مركزية الديمقراطية في "المشروع"، وانسجامها مع مبدأ الشورى الإسلامي، وعدم ضرورة تلازمها مع العلمانية، ثم يتحدث عن آليات تحقيقها، وعن كونها نظاماً اجتماعيّاً وليس سياسيّاً فقط. وفيما يخص الآليات فإن النص يورد ثلاثاً يعتبرها الأهم وأن من شأنها "أن تهيئ الشروط التحتية لإشاعة الثقافة والقيم الديمقراطية في المجتمع العربي". وأولى هذه الآليات هي "نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان وتعزيزها" سواء في مناهج التعليم، أو الإدارة الحكومية، والأمنية، والإعلامية. وثانيتها "تفعيل حركة حقوق الإنسان داخل كل بلد عربي وعلى الصعيد القومي". وثالثتها "إحداث آليات للعمل الديمقراطي على الصعيد القومي وإطلاق مؤسساته من قبيل إنشاء منظمة عربية لحقوق المرأة... ولجنة حقوقية عربية موحدة لمراقبة نزاهة الانتخابات، ومجلس دستوري عربي... وبرلمان شعبي عربي، وما شاكل ذلك من مؤسسات قومية للعمل الديمقراطي". وليس ثمة شك في أهمية هذه الآليات وتواؤمها مع ما يطرحه المشروع النهضوي ولكنها في الوقت نفسه أقرب إلى المطالبات أو التمنيات منها إلى الآليات، كما تترك انطباعاً بكونها "آليات" متواضعة إذا ما نظرنا إليها من زاوية الهدف الكبير المنشود، وهو تحقيق ديمقراطية الدولة والمجتمع في العالم العربي. فالسؤال الذي يلاحق كل من تلك المطالبات أو الآليات هو "كيف"؟ كيف يمكن أن نحقق نهضة وتغييراً جذريّاً في مناهج التعليم تقوم على مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان؟ وكيف يمكن، كما يطالب النص، "الضغط على النخب الحاكمة من أجل إقرار حقوق الإنسان بمعاييرها الكونية واحترامها"، والغالبية الكاسحة في بلداننا لا تقبل بكل تلك المعايير الكونية ناهيك عن النخب الحاكمة؟ وكيف يمكن أن تتواءم تلك المطالبات مع المفاهيم والتفسيرات التي زرعتها التيارات الإسلاموية في الفضاء العربي، ويريد النص القومي أن ينسج مقاربة فكرية تسترضيها ولا تستفزها؟ لا تتحدث الآليات المذكورة عن حركة نضال ديمقراطي واسع وحقيقي تعتبر تحقيق الديمقراطية أولوية قصوى وتستحق التضحية من خلالها، وتكون، مثلاً، في صدارة أجندة الأحزاب القومية وغير القومية. ولا تتحدث عن كيفية تنزيل المطلب الديمقراطي شعبيّاً ليصبح مطلباً عامّاً وليس موسميّاً وترَفيّاً عند الشرائح العريضة واللامبالية، وتفكيك نخبوية الهم الديمقراطي. كما لا تتحدث هذه الآليات عن التضامن مع جهات حقوقية كونية غير عربية هدفها دعم التحول الديمقراطي وتعزيز حقوق الإنسان في العالم (وهذا يعكس التوجس الزائد عن اللزوم إزاء التعامل مع العالم الخارجي بما يحقق تغييرات داخلية). ثم يتحدث النص عن "الديمقراطية كنظام اجتماعي" مؤكداً نقطة مهمة جديرة أيضاً بالإشادة لتعقلها الجديد في النظرة القومية، التي تقول: "ليست الديمقراطية نظاماً سياسيّاً أو نظاماً للدولة فحسب، وإنما هي أيضاً نظام اجتماعي أو نظام للمجتمع. ولا يكفي، من منظور المشروع الديمقراطي، أن ينصرف النضال من أجل الديمقراطية إلى النضال من أجل ديمقراطية الدولة فحسب، بل ينبغي أن ينصرف في الوقت نفسه إلى النضال من أجل ديمقراطية المجتمع". وفي التفصيل في هذا المكون الأساسي لفهم الديمقراطية يشدد النص على وظائف اجتماعية أربع للديمقراطية هي: تأسيسها لعلاقة المواطنة التي تتجاوز الدين والجنس والعرق وتبني المجتمع والدولة على أساس الواجبات والحقوق، وإخراجها للمرأة من هامشيتها أو تهميشها وتحقيق مساواتها بالرجل، وتأهيلها النظام الأسري والنظام التربوي على القيم الديمقراطية، واستخدامها وسائل ديمقراطية فقط لتحقيق النظام السياسي الديمقراطي. إن فهم الديمقراطية كنظام اجتماعي وثقافة تنظم علاقات الأفراد والمواطنين ببعضهم بعضاً فضلا عن كونها شكلا كليّاً للنظام السياسي يمثل نقلة أساسية وجوهرية في وعي الديمقراطية عربيّاً (وعالمثالثيّاً). فالديمقراطية ثقافة متكاملة تبدأ من الفرد والبيت والمدرسة وأساسها الاعتراف بالآخر وقبول اختلافه والتعايش مع الرأي المختلف أياً كان مضمونه وأيّاً كان حامله. وما لم تتجذر هذه الثقافة في وعي الأفراد من الصغر، فإن من الصعب تخيل استبطانها في مراحل لاحقة بشكل حقيقي. ولكن المشكلة الحقيقية التي تواجه "الديمقراطية الاجتماعية" في بلداننا العربية (والإسلامية) هي ترسخ نوع من الثقافة الدينية وتفسيراتها التحزبية والأصولية التي تضع حدوداً مباشرة لكل انفتاح باتجاه الفكر الديمقراطي التعددي. وتتفاقم المشكلة مع سيادة التهرب وأحياناً اللامسؤولية الفكرية عند محاولة المداورة على هذا الأمر، وهي المداورة التي نراها هنا مثلا في نص المشروع النهضوي وتفترض انسجاماً ساذجاً بين الديمقراطية والشورى، وتنكر تلازم الأولى مع العلمانية. ففي الوظائف الاجتماعية الأربع التي يوردها النص ثمة سجال طويل وحاد ومفتوح بين الرؤى الإسلاموية والرؤى الديمقراطية والعلمانية. فمسألة المواطنة التي تساوي بين الأفراد على أسس قانونية ودستورية ولا تفاضل بينهم بسبب الدين أو الطائفة، وهي الوظيفة الأولى للديمقراطية بحسب النص، ما تزال غامضة في الفكر الإسلامي. والأمر نفسه ينطبق على قضية المرأة وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، وهي الوظيفة الثانية، فهنا يشتد السجال بشكل أكثر حدة حيث لا تقبل رئاسة المرأة، ولا إمامتها، وتظل مواطنتها (بحسب التعريف الديمقراطي) منقوصة. ثم إن ساحة النظام الأسري والتربوي اللذين يدعو النص لأن يعاد تأهيلهما بحيث يخلقان المواطن الديمقراطي، هي ساحة الصراع الأهم التي تشتغل عليها تيارات الأسلمة وهي تعيد صوغ تلك الأنظمة بعيداً عن كل ما له علاقة بالجوهر الديمقراطي. ويختتم النص القومي هنا مقاربته الديمقراطية بإعلان حاسم يقول: "يفترض المشروع النهضوي العربي أن المعركة من أجل النهضة تمر من بوابة المعركة من أجل الديمقراطية، وبناء دولة القانون. لكن هذه أيضاً تتلازم في الوقت نفسه مع النضال من أجل الديمقراطية في المجتمع". ومن منظور هذا الإعلان والموقف الواضح والمهم يمكن أن نقول إن هناك خطوة كبيرة حقاً قطعها الفكر القومي في تنظيره للديمقراطية وتبنيه لها. ولكن هذه الخطوة، ونظراً للأهمية المركزية التي أصبح يوليها هذا الفكر للديمقراطية، تحتاج إلى إعادة النظر في الوعي بالديمقراطية كما هي، أو إنتاج ديمقراطية عربية مبنية فعلا على أساس المواطنة، ولا تقدم تنازلات يميناً ويساراً تفرغ هذه المفاهيم الكبيرة والغنية من مضامينها.