الأحداث والوقائع، الأفراح والفجائع، التغيرات والتقلّبات، الآراء والمقولات، جميع هذه المؤثرات والتحولات في حياة البشر تتحوّل تلقائياً إلى خبرٍ جدير بالعناية وحريٍ بالملاحظة والمتابعة والنقل. هذه فكرة مبسطةٌ عن تطوّر صناعة الخبر لدى البشر، وتطوّر صناعة نشره وإشاعته لأوسع نطاق ممكن، ينطبق هذا على الخبر الشفاهي أو الكتابي قديماً، سواء ظهر في نقل شفهي مباشر أو في رسالةٍ أو في كتابٍ أو غيرها من المظاهر التي تعبر عن عمقٍ تاريخيٍ مهمٍ يدل على تعلّق البشر بالخبر ومدى تأثيره على حياتهم ومعاشهم. تحوّلت هذه الرغبة البشرية الدفينة في العالم الحديث إلى صناعة مرّت بأطوارٍ مختلفةٍ ومتباينة في الوقت نفسه، وذلك عبر وسائل الإعلام الحديثة من الجريدة إلى الراديو إلى التلفزيون إلى الفضائيات، إلى غيرها من وسائل الإعلام كالنشرات والمجلات وغيرها كثير. استخدمها المستعمر لإخضاع الشعوب، واستخدمها الثائر لإشعال الثورات، واهتمّ بها المحتلّ لنشر شرعية احتلاله، واعتنى بها المقاوم لتأكيد شرعية مقاومته، اختلفت التوجهات والأهداف، وتباينت الآراء والأفكار، وبقي الإعلام وعلى رأسه الخبر الوسيلة الأوسع تأثيراً والأكثر انتشاراً، والأبلغ في تحقيق الهدف المرجوّ والغاية المبتغاة. تعوّد العرب منذ إنشاء التلفزيونات المحلية ولعقودٍ طوالٍ على رؤية الأخبار من خلال تلك التلفزيونات التي تدار –كما هو معلومٌ- من قبل السياسي، يبث من خلالها ما يريد ويوصل لمواطنيه الرسائل التي تخدمه وتشيد بتميّزه وتفرّده وربما أسطوريته كما جرى مع عبدالناصر ومع صدام ومع أغلب القادة العرب في تلك المرحلة. غير أنّ ساقية الإعلام التلفزيوني جرت فيها منذ مطلع التسعينيات مياه أخرى، وكانت بداية البث الفضائي شبه المستقل من خلال فضائية "إم. بي. سي"، وكانت أخبارها شبه المستقلة، والتي كانت تسعى للاحترافية والمهنية قدر مستطاعها حينذاك هي أولى خطوات العرب نحو الفضاء، وإنشاء فضائياتٍ تغطي كافة شؤون اهتمام المتلقّي العربي، فمنها الترفيهي، ومنها الدرامي، ومنها الإخباري وغيرها من الشؤون. فيما بعد، كان الحدث الإعلامي الأكثر تأثيراً وجدلاً إخبارياً هو إطلاق دولة قطر لقناة الجزيرة الإخبارية في منتصف التسعينيات، تلك التي قلبت موازنات المشهد الإعلامي العربي في مجال الأخبار، وإن كانت تتخذ شعاراً ينتمي للرأي لا للخبر من خلال شعارها المعروف "الرأي والرأي الآخر"، ولكنّها حققت اختراقاً إعلامياً وإخبارياً جديرٌ بالإشادة، ومنطق الأشياء يخبرنا أنه لولا قناة "الجزيرة" والأفق الذي فسحته لم يكن لغيرها من القنوات الإخبارية التي وازتها أو تجاوزتها أن تجد لها مكاناً في الفضاء المفتوح. بعيداً عن حديث الماضي البعيد والأمس القريب، نجد اليوم أن ثمة تسابقاً محموماً بين القنوات الإخبارية العربية القائمة والساعية إلى استقطاب المشاهد العربي، وعلى الأثر تسعى لمنافستها تلك القنوات اللاهثة للتواجد في المشهد الإخباري الفضائي العربي، وذلك من شتى دول العالم، فضلا عن العربية منها، فمن دول العالم: ثمة قناة الـ"بي. بي. سي" البريطانية الناطقة بالعربية، والتي تحظى باحترامٍ كبيرٍ نظراً لتاريخها الإخباري الطويل إذاعياً، والمصداقية التي بنتها عبر عقود، وتباعاً فقد أخرجت روسيا قناة أخبارٍ عربيةٍ، وأميركا أيضاً عبر قناة الحرة، وإيران عبر قناة العالم وشيئاً ًما عبر قناة المنار، وإسرائيل تبثّ نشرات أخبارٍ عربيةٍ متعددة، وتركيا تفعل الشيء عينه. وفي الدول العربية نجد قنوات إخبارية ضاربةٍ الجذور، فقناة "العربية" وقناة "الجزيرة" لم تزالا هما الرائدتين حتى الآن، وقد نعمتا بسنواتٍ من الانفراد الإخباري أحسب أنها لن تدوم طويلاً، ففضلاً عن القنوات الأجنبية، نجد أن القنوات الإخبارية المنطلقة من العالم العربي في تزايدٍ وتزاحمٍ، فعلى سبيل المثال ينوي الوليد بن طلال مالك قنوات "روتانا" إطلاق قناة إخبارية جديدة بالتعاون مع القناة الأميركية الشهيرة "فوكس نيوز"، كما ينوي أحد المستثمرين في أبوظبي إطلاق قناة إخبارية أخرى بالتعاون مع "سكاي نيوز"، وقد أطلق سعد الحريري قناة أخبار المستقبل من قبل، هذا فضلاً عن قناة أوربت الإخبارية وغيرها. أحسب أنه من الجميل أن يزداد التنافس بين قنوات الأخبار العربية، فذلك كلّه في مصلحة رفع السقف الإعلامي إخبارياً، وهو ما يعني بالضرورة مصلحة المشاهد في تلقي الخبر الصحيح، إضافة لهذا فإن هذا التنافس يصبّ في مصلحة كثيرٍ من الشباب النابه في مجال الإعلام والأخبار الذي لم يكن يجد الفرصة المواتية للتعبير عن إبداعه ونبوغه، ومن هنا فليتنافس المتنافسون على هذا الشباب النابه، وليخلقوا فرص عمل جديدة تمنحهم القدرة على التعبير عن تميّزهم واختلافهم عن غيرهم. وهو ما لم يكن متاحاً لهم من قبل. يجدر بنا التعريج على الشريحة المستهدفة من قبل هذه القنوات، فهي أولاً شريحةٌ أقلّ من ناحية العدد من الشرائح التي تستهدفها قنوات المنوّعات بأنواعها دراميا وغنائياً وترفيهياً وغيرها، ولكنّها وهذا ثانياً شريحةٌ مؤثرةٌ من حيث الكيف لا من حيث الكمّ مقارنة بشريحة قنوات المنوعات، وهذه الشريحة بطبيعتها متفاوتة المكانة من حيث التأثر والتأثير تبتدئ من صانع القرار السياسي وتنتهي إلى المشاهد المهتمّ بمراقبة ما يجري في المنطقة والعالم مروراً بفئاتٍ شتى لها مكانتها وأهميتها وتأثيرها كلٌ بحسبه، كالصحافيين والكتّاب والباحثين والاقتصاديين وغيرهم كثير من مختلف الفئات التي تتقاطع اهتماماتها مع مجال الإعلام الإخباري. ما يجب أن تضعه قنوات الأخبار القائمة والساعية للدخول على المشهد الإخباري في اعتبارها هو ما يمكن تسميته بـ "الإعلام البديل"، أو "إعلام العولمة"، الذي يتجلّى أكثر ما يتجلّى في وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت والجوّالات ونحوها، ومعركة البلاك بيري الأخيرة تحدثنا بالكثير. إنّ التقنية الحديثة تمنح كل مستخدمٍ لها أن يكون مصدراً للخبر سواءً بالكتابة أم بالصورة أم بالصوت أم بها جميعاً، فالمدوّنات الشخصية المهتمة بالخبر أكثر من أن تحصى، والمواقع الإنترنتية الإخبارية في تزايدٍ مستمرٍ وانتشارٍ يثير الدهشة، عربياً تبعاً للتطوّر العالمي في هذا المجال. هذا فضلاً عن المواقع ذات الصيت العالمي كاليوتيوب الذي يعرض –تقريباً- كل شيء يحدث في العالم، وتحصد بعض مقاطعه مشاهدة مئات الملايين، ومراسلوه هم مستخدمو الإنترنت في العالم، أي أنه يحظى بشبكة مراسلين تقدر بمئات الملايين وهو رقمٌ يستحيل على أي قناة إخبارية أن تصل إليه، أو كالفيس بوك الذي أصبح عالماً جديداً يتواصل فيه الناس بلا حساب ويتناقلون الأحداث والأخبار بلا رقيبٍ أو حسيب، واليوتيوب والفيس بوك مجرد أمثلةٍ وإلا فتشعب المواقع واختلاف اهتماماتها وتخصصاتها فيما يتعلق بالخبر تفوق الحصر وتتجاوز العدّ وليقارن من شاء بموقع جوجل. أحسب أن القناة الإخبارية التي تريد المحافظة على مكانتها لدى المتلقّي هي التي تستطيع أن تخلق تواصلاً مرناً وسلسلاً وعادلاً مع "إعلام العولمة" ورموزه وممثليه من الشباب الجادّ والمكافح والمتميّز في التقاط الخبر وصياغته وضمان تأثيره. وقديماً قال الشاعر الجاهلي: ويأتيك بالأخبار من لم تزوّدِ