ظهرت مقولة الدولة الفاشلة من جديد في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، في سياق الجدال بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بشأن نجاح النموذج الشيوعي أو فشله. والمقولة في الأساس اقتصاديةُ الطابع، وتعودُ إلى عشيات الحرب العالمية الثانية عندما انفجرت الأزمة المالية العالمية عام 1929، وفقدت سائر العُملات الغربية قيمتها، وشاع الاضطراب في كل مكان. لكنها منذ ذلك الحين، لم تستُعمل إلاّ لوسم دولٍ وأنظمةٍ فيما صار يُعرف بالعالم الثالث بآسيا وأفريقيا، والتي تتوافرُ فيها ثلاثُ سِمات: انخفاض نِسَب النمو على فتراتٍ ممتدّة. بحيث يقلُّ متوسِّطُ الدخل عن الألف دولار في العام، وعَجْز السلطات عن نشر سيطرتها على كامل تُرابها الوطني بحيث ينتشر الاضطراب وتتعدد السيطرات، وضعف السلطات عن حماية مصالحها الوطنية واستتباعها لإحدى الجهات الإقليمية أو العالمية. وعندما اتّهمت الولاياتُ المتحدة الاتحاد السوفييتي بأنه دولةٌ فاشلةٌ، ما كان ذلك صحيحاً بأيٍّ من المقاييس السالفة الذكْر. بيد أنّ الأميركيين أضافوا للسِمات التي ذكرْناها أُخرى رابعة، وهي الافتقار إلى الحريات الأساسية، وضمانات المُواطنة المعروفة في العالَم الحديث. وفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، نشر كلٌّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثقافةً جديدةً فيما يتعلقُ بنجاح الدول وفشِلها، تتجنب التسميات الأَيديولوجية الجارحة، وتتحدث عن النجاح والفشل بلُغةٍ أُخرى هي لُغةُ "نسْبة مَنْ هم تحت خطّ الفقر"؛ فإذا تجاوزوا الخمسين بالمائة من مجموع الناس في الدول، اعتُبرت تلك الدولة أو ذاك البلد في حالة أزمةٍ مستحكمةٍ وتستحقُّ المساعدة والتسهيلات والاستدانة من المؤسَّسات الدولية. وقد اعتبر التحرير الهيكلي للاقتصاد وقتَها هو العلاج الشافي من كلّ الأمراض، وهذا يعني أن تتراجع سيطرة الدولة على الاقتصاد، وأن يُطلق سراحُ "القوى الاقتصادية" لكي يتصاعد النموّ من طريق "حرية السوق"، بعيداً عن بيروقراطية الدولة وفسادها. لكنّ سياسات التحرير الهيكلي ما نجحت في تحقيق نتائج مُرضية إلاّ في الأقلّ من الدول، في حين ازدادت نسبة الفقراء في سائر مجتمعات الحريات الجديدة للأسواق! ولندعْ هذه التأملات النَظَرية إلى الوقائع. فقد قراْتُ أمس لائحةً جديدةً بالدول الفاشلة، ما نشرها هذه المرة أيديولوجيو "حرية السوق"، بل بعض الوكالات المتخصصة في الأُمم المتحدة، فخلال العقدين الماضيين كانت "اللائحة" الشهيرة تتضمن دائماً خمس أو ست دُوَل وهي: كوريا الشمالية والصومال والسودان، وزيمبابوي وسريلانكا وميانمار. وقد خرجت منها فيتنام ولاوس وكمبوديا، ودخلتْها كُلٌّ من أفغانستان وباكستان واليمن وبنجلادش وطاجكستان، ودول صغيرة، في أميركا الوسطى والجنوبية. وإذا تأملْنا اللائحة الجديدة هذه في ضوء السِمات الثلاث أو الأربع، نجد بالفعل أنّ الأبرز في الجوامع المشتركة أمران: تزايد نسبة الفقر، والاضطراب الأمني والسياسي. وكما أنّ نسبة الدول العربية والإسلامية في هذه اللائحة مرتفعة؛ فالملاحظُ أنّ بين المرشحين للدخول إلى القائمة عدداً من الدول العربية والإسلامية أيضاً يصلُ إلى العشرين. وأكثر الدول المعتَرضة للدخول إلى القائمة موجودة في آسيا الوسطى والقوقاز وأفريقيا والأميركتين (الوسطى والجنوبية). إنما أين نضعُ الأسباب التي أفْضت إلى هذه النتائج المخيفة؟ هل نضعُها في المجال الأمني والسياسي أم في المجال الاقتصادي؟ أمّا الخبراء الاقتصاديون العالميون فيطلبون منا أن نأخذ بالاعتبار عدة عوامل اُخرى، مثل التاريخ الاستعماري، والتصارُع العالمي على الموارد، والافتقار إلى الموارد الطبيعية. فالكونغو مثلاً يملكُ موارد طبيعية هائلة، لكنّ الصراع على الموارد والافتقار إلى الحكم الرشيد، أدّيا إلى اضطرابٍ كبيرٍ ناجم عن الانقسام القَبَلي، والتشابُك مع دول الجوار، والافتقار إلى السلطة المركزية القوية، والجيش الوطني المنتظم. ولا تملكُ أفغانستان موارد طبيعية معتبرة، لكنّ الصراع بين الدول الكبرى على مشارف شبه القارة الهندية، جعل من أفغانسْتان مسرحاً لنزاعاتٍ مستشرية، فأَوَتْ إليها تنظيماتٌ متطرفةٌ مستغلَّةً حالةَ الفوضى، والمعروف تاريخياً أنّ تضاريس البلاد الصعبة والمعقَّدة قَوَّتْ محلّياّتٍ وإثنياتٍ ومذاهب وجهويات تميلُ للاستقلال والذاتية. والأمر نفسُه يمكن قولُهُ عن السودان ذي الموقع المُهمّ، والذي ولَّد تشابكاتٍ استعمارية ومن دُوَل الجوار. وزاد الطين بلَّةً مجيءُ الإدارة العسكرية إلى السلطة بالشمال في الوقت الذي كانت فيه الحكوماتُ العسكرية تتضاءلُ في سائر أنحاء العالَم. ثم ظهور البترول في البلاد وسط تلك الفوضى الضاربة، مع تفاقُم الفقر في دارفور وغيرها بسبب متغيرات المناخ، وعدم وجود الإدارة الرشيدة لتنظيم توزيع الموارد الناضبة. فإذا وصلْنا إلى بلدانٍ مثل كوريا الشمالية وميانمار، نجد أنّ الافتقار إلى الحكم الرشيد هو السببُ الرئيس للتردّي في وضْعٍ من الفقر المُدْقِع لنسبةٍ كبرى من السكّان. ويحارُ المرءُ في تشخيص أسباب ما حدث ويحدث بالصومال منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. وقد قال لي أحد المهتمين بالقرن الأفريقي من الباحثين الألمان: إنّ الوضع الآن على درجةٍ كبرى من التعقيد، وقد تداخلت فيه عوامل الفقر والاضطراب، لكنه ما كان كذلك في أوساط التسعينيات، وكان يمكنُ وقتَها التخلُّص من أُمراء الحرب، كما تخلَّص منهم اللبنانيون أو كادوا، وفي الخلاصة (بحسب الباحث الألماني نفسه)؛ فإنّ العاملين الحاسمين هما: السياسات التنموية، والحكم الرشيد أو الإدارة السياسية الحكيمة. إنما كيف ننظر إلى اللائحة أو القائمة السالفة الذكْر، والتي تغصُّ بالدول العربية والإسلامية؟ هل هناك "استثناءٌ" إسلاميٌّ في مسألتي الفقر وضعف الدولة؟ فريد زكريا كاد يقول بذلك في كتابه المعروف، لكنْ عن الديمقراطية. على أنّ برتران بادي كان قد ذهب إلى أنّ صيغة الدولة/ الأمة ليست هي الأَصلَح للبُنى السياسية في أفريقيا ونواحٍ معيَّنة في آسيا. فلا بُدَّ من مُراجعةٍ وتتبُّع للتجربة السياسية العربية، وللتجارب التنموية في العالمين العربي والإسلامي: كيف ظهرت التجارب، وتطوَّرت، وما هي العواملُ الداخلية والخارجية المؤثّرة في تجارب مصر وسوريا والعراق والجزائر؟ فهذه الدول ليست فاشلةً بالمقاييس السالفة الذكر. لكنها لا تشكّل نموذجاً للتطور الذي كان مأمولاً منها جميعاً قبل أربعة عقود على سبيل المثال! ولنتأملْ أخيراً حالةً كانت واعدةً حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، هي الحالةُ اللبنانية. إذا تأمّلْناها اليومَ نجد أنّ المستوى المعيشي لشعبها جيّد، ونسبةُ مَنْ هم تحت خطّ الفقر لا تزيدُ على الـ 20 في المئة. لكنّ فيها ثلاثاً من سِمات الدول الفاشلة: انتشار الاضطراب الأمني والسياسي على مديات متطاولة، وأنها دولةٌ مدينةٌ دَيناً لا علاجَ له تقريباً، وهي مستنزَفة في التجاذُب مع دُوَل الجوار: سوريا وإسرائيل. فلو قِسْنا الأمور بالمسطرة كما يقال، لكان علينا أن نقول إنها دولةٌ فاشلةٌ إلى حدٍ كبير. على أنّ أحداً في العالَم ما اعتبر حتى الآن أنّ الوضع اللبناني ميؤوسٌ منه، والمقارنة بينها وبين دول الجوار المستقرّة، تظلُّ دائماً لصالحها! وفي النهاية؛ فإنّ فشل هذه الدولة أو تلك ليس أُحجيةً، ويمكنُ التشخيصُ والعلاج. إنما لا يستطيعُ أحدُنا التخلُّص من التساؤل المشروع: لماذا هذه النسبة العالية من الدول ذات المشاكل المستعصية في العالمين العربي والإسلامي؟!