"إن المناورات الكورية مؤشر على تصاعد التوتر"، هكذا حذر عنوان لتقرير أعدته هيئة الإذاعة البريطانية، "بي بي سي"، وهو ليس العنوان الوحيد من نوعه، إذ تتسابق العشرات من العناوين الأخرى في مختلف وسائل الإعلام الدولية محذرة من التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، بل لقد ذهب بعضها إلى التحذير من نشوب حرب باردة بين البلدين الكبيرين. ولكن بإلقاء نظرة فاحصة على الدولتين يتبين الخطأ في التقدير الذي تنطوي عليه تلك التحذيرات، فهي تخلط بين المناورات التكتيكية والخطط الاستراتيجية الكبرى، كما أن الوضع الحالي للاقتصاد العالمي يدفع البلدين معاً في اتجاه مختلف من خلال تبني استراتيجيات تقليص العبء الذاتي وإلقاء الأعباء على الطرف الآخر بدل التوسع والصراع. والحقيقة أن التباين في المقاربات موجود بالفعل بين الولايات المتحدة والصين حول العديد من القضايا الاستراتيجية في شمال شرق آسيا ومناطق أخرى، بل يمكن توقع نشوب توتر بينهما، من حين لآخر، بسبب التدريبات البحرية المشتركة بين القوات الأميركية ونظيرتها الكورية الجنوبية. إلا أن ذلك لا يعني اندلاع صراع مفتوح. والحال أن الرئيس أوباما ونظيره الصيني "هو جينتاو" لا يستطيع أي منهما، على المستوى الداخلي، تبرير الانخراط في مخططات استراتيجية وتطلعات جيوسياسية، ناهيك عن الدخول في صراع مكلف على طراز الحرب الباردة، بل خلافاً لذلك تماماً يعمل الزعيمان معاً على تحجيم سياساتهما الخارجية والتركيز بدلا من ذلك على الأولويات الداخلية. وهذه الرغبة في الحد من الانخراط الخارجي يدلل عليها سعي أوباما إلى إحياء التزام بلاده تجاه المؤسسات الدولية وانتهاج سياسة متعددة الأطراف، كما يفسر أيضاً ضغوطه المستمرة على أوروبا والصين وباقي الدول لتحمل قسط أكبر من المسؤولية الأمنية مثل احتواء التطلعات النووية الإيرانية. وفي هذا الإطار يمكن أيضاً فهم جهود أوباما لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا ولجم الزيادة في ميزانية وزارة الدفاع الأميركية. وبتقليصه للالتزامات الأميركية الخارجية ونقل تكلفة المشاركة في ضمان استقرار الأمن الدولي إلى باقي الدول والمؤسسات العالمية يريد أوباما استثمار المزيد من الموارد داخليّاً في الاقتصاد والرعاية الصحية والتعليم باعتبارها المجالات المهمة لتعزيز فرص حزبه السياسية. وهذا التغيير في الأولويات يمكن رصده في الوثيقة الخاصة باستراتيجية الأمن القومي التي أصدرها البيت الأبيض في شهر مايو الماضي، فالوثيقة انكبت في أغلبيتها على الشأن الداخلي والسياسات المحلية مثل كيفية دعم الاقتصاد وإعادة تأهيل البنية التحتية، وبالطبع هناك صعوبات تواجه أوباما في أولوياته الجديدة، لاسيما مع انتشار عشرات الآلاف من القوات في أفغانستان والعراق وتعاظم العجز الفيدرالي، بالإضافة إلى معارضة "الجمهوريين" لكل حركة يأتي بها أوباما ووقوفهم ضد سياساته. وهنا يتبين خطأ التقديرات التي ترى في التحولات الجارية التي يدشنها أوباما مجرد مناورة للتمويه على خطط أميركا التوسعية، ذلك أن المؤشرات كلها تذهب إلى أن التجديد الداخلي وليس الطموح الخارجي هو ما يحرك السياسة الخارجية الأميركية. والحقيقة أن الولايات المتحدة ليست وحدها هي من تسير في هذا الطريق، بل تشترك معها فيه الصين من خلال تركيز "جينتاو" على الأولويات الداخلية. وعلى رغم أن الصين لم تعانِ بنفس القدر الذي عاني منه باقي البلدان من الأزمة الاقتصادية، إلا أن الأزمة كان لها دور كبير في إثارة قلق الرئيس "جينتاو" من الهوة المتسعة في الدخل والفوارق المتعاظمة بين المناطق، فضلا عن تنامي البطالة، وتصاعد المطالب التنموية الداخلية. وقد شدد الرئيس الصيني على الحاجة إلى مساعدة المتضررين من الأزمة الاقتصادية، محذراً من أن بكين يتعين عليها "تعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي" الذي يعتبر "أساس الازدهار واستدامة الاستقرار"، ولذا من غير المتوقع في ظل انخراط الصين الداخلي وتركيزها على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي أن تكترث إلى المطالب الأميركية بتحمل مسؤوليات دولية إضافية للمشاركة في دعم السلم العالمي، والسبب في ذلك لا يعود فقط إلى التكلفة الكبيرة التي يستدعيها الانخراط الخارجي، بل يعود أيضاً إلى اعتبارات سياسية تعكس نظرة راسخة لدى بكين تجعلها لا تستسيغ التدخل الخارجي سياسيّاً، فمنذ تحذير "دينج زياوبينج"، مهندس الانفتاح الاقتصادي الصيني، من تحمل مسؤوليات القيادة العالمية، والزعماء الصينيون يتبعون نفس النهج المتريث إزاء التدخل الخارجي. ومع أن المراقبين للسياسة الدولية يشيرون إلى الجهود التي تبذلها الصين لتحديث جيشها ومطالبتها المستمرة بعودة تايوان، إلا أنهم يغفلون أن الجزء الأكبر من المؤسسة العسكرية موجه لغايات دفاعية صرف، وأن بكين تفضل الدبلوماسية على الإكراه في حل النزاعات الحدودية مع جيرانها. كما أن الصين تحت قيادة "جينتاو" حددت مصالحتها ضمن دائرة الاقتصاد وليس خارجها. والخلاصة أن الخطر اليوم ليس في تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة وتطورها إلى مواجهة حول القضايا الخلافية، بل في عدم انشغال البلدين وسط تركيزهما على القضايا الداخلية عن حشد الإرادة اللازمة لحل المشاكل الدولية المشتركة مثل تنامي السياسات الحمائية والانتشار النووي والتغير المناخي وغيرها، كما أن تراجع الصين وأميركا عن لعب دورهما العالمي قد يشجع الدول الأصغر على السعي إلى ملء الفراغ الجيوسياسي. بيتر تروبويتز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوستن بتكساس يان كزوتونج مدير معهد الدراسات الدولية بجامعة "تشنخوا" الصينية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"