ليس السلوك البشري هو معيار الاختيار بين ثقافة الموت أو ثقافة الحياة، بل هي الثقافة أي الرؤية والمنظور. فالثقافة هي التي تحدد تصورات العالم ومعايير السلوك. وقد تكون الثقافة والسلوك على طرفي نقيض. قد تظهر ثقافة الموت في تعويض لها في سلوك الحياة كما هو الحال عند المصريين القدامى. إذ يقوم الموروث الثقافي على ثقافة الموت كما هو الحال في تعظيم الأموات والتحنيط وبناء الأهرامات كمقابر وتخليدها في "كتاب الموتى". في حين أن من سلوك المصريين أيضاً حب الحياة، الغناء والرقص والمرح والنكتة والسخرية و"القفشات" في ساعات التجلي سواء في مصر القديمة أو مصر الحديثة. وعلى جدران المقابر القديمة رسوم إيقاع الحياة، الصيد والزرع، والسمك والطير والحيوان. واليوم، امتلأ بعض خطب الجمعة وأحاديث العصر وقنوات الفضاء بالحديث عن الموت وكأنه لا يوجد في الدين إلا الموت وأهواله والرعب الذي تقشعر منه الجلود. ومئات الآلاف من المسلمين يموتون جوعاً وقحطاً وغرقاً في السودان والصومال وبنجلادش وإندونيسيا ولا يتحرك أحد، وكأن الموت فضيلة، والحياة رذيلة. صحيح أن ثقافة الحياة تظهر أيضاً في آلهة مصر القديمة، الشمس والنيل وعجل أبيس ولكن "عروس النيل" أجمل امرأة في مصر تلقي بنفسها في حضن النهر امتناناً بالفيضان. فالموت يعطي الحياة بشرط أن تـُعطى الحياة للموت. وقد قال فيلسوف التاريخ "فيكو" إن الظواهر الاجتماعية الأولى في حياة البشر ثلاث: الدين، والزواج، ودفن الموتى. وفي الديانات الإبراهيمية الثلاث ركزت اليهودية على الحياة الدنيوية دون البعث واستمرار الحياة بعد الموت، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ)، (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). وقد أحدث ذلك رد فعل في المسيحية في تركيزها المضاد على الحياة الأبدية وليست الحياة الدنيوية، ملكوت السماوات وليس ملكوت الأرض، وكما عبر عن ذلك أوغسطين في "مدينة الله" في مقابل مدينة الأرض. ثم جاء الإسلام ليعدل الميزان بين الحياة والموت في كفتين متساويتين "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". والله يحيي ويميت على حد سواء. لا يحيي فقط فلكل أجل كتاب. ولا يميت فقط فالموت متبوع بالبعث. أما التراث القديم فقد ركز في معظمه على ثقافة الموت أكثر من تركيزه على ثقافة الحياة. فظروف الفتنة الكبرى والاقتتال بين الفريقين الخصيمين واستشهاد أئمة آل البيت، وتحول الخلافة إلى ملك عضود، وانهيار التاريخ المستمر، كل جيل أقل فضلا من الجيل السابق، (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)، وكل أحاديث الفتن في آخر الزمان وعلامات الساعة، كل ذلك أخاف بعض الناس من الحياة الدنيوية التي كانت السبب في الشقاء والنزاع على السلطة. واتجهوا إلى الحياة الآخرة يجدون فيها النصر والنعيم تعويضاً عن هزائم الدنيا وعذاباتها. وهكذا نشأ الزهد كحركة مقاومة سلبية ضد التكالب على الدنيا ومباهج الحياة. الحياة عند بعض الزهاد استعداد للموت. هي وسيلة، والموت غاية. وإن لم يأت الموت كراهية فإنه يأتي طوعاً. فما الحياة إلا في الموت. وما حياة القلب إلا في إماتة النفس. إماتة النفس إحياؤها كما هو الحال في الفلسفة الهندية القديمة. وإحياء النفس إماتتها. والحياة حجاب يكشف بالموت. بالموت ينكشف الغطاء. وهو معنى توحيد الموتى. تحيا القلوب بذكر الموتى. وأفضل عبادة ذكر الموت. الموت حياة، والحياة موت. فإذا مات أحد قد يكون هو الصاحب. وإذا كان حيّاً قد يفر منه الصديق. ولو وضع غم القبر على خلق السماوات والأرض لماتوا فزعاً. والمؤمن إذا مشى فإنه ينظر إلى قبره أمامه وليس إلى حياته وراءه. وشارك بعض الفلاسفة أيضاً الزهاد في الإعلاء من شأن النفس بعد الموت، وهموم البدن وارتباطه بالحواس والرغبات والشهوات والملذات كما هو الحال في الفلسفة الهندية. فالسعادة في الاتصال بالعقل الفعال. الفلاسفة إشراقيون مثلما أن الإشراقيين فلاسفة كما وضح ذلك في حكمة الإشراق. وفي علم أصول الدين وعلم الكلام، الدنيا معبر للآخرة. والحياة محددة بالأجل، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ). الموت هو نهاية الأجل وانقضاء العمر. إن أصول الفقه هو العلم الوحيد الذي فضل الحياة على الموت. فالحفاظ على الحياة هو الضرورة الأولى من الضروريات الخمس: الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال. والضرورات تبيح المحظورات. والرخص بدائل للعزائم. والمصالح المرسلة وجميع أشكال الاستدلال الحر من استحسان واستصلاح واستصحاب تهدف إلى الحفاظ على الحياة، ودرء خطر الموت. الموت يدفع الناس إلى الحياة. ويجعل الزمن مركّزاً ومحدداً للإبداع. فلا إبداع إلا في الزمان. بعدها يتحول الإبداع إلى خلود كجزء من الإبداع البشري العام. والخلود رغبة في البقاء وقهر الموت. لقد تفوق الغرب علينا لأنه آثر الحياة على الموت، وتحول محور الفكر الأوروبي من النفس إلى البدن، من طهارة الروح إلى طهارة الجسد، ونظافة الطريق والحمامات والملابس. نشأت لديه فلسفات الحياة منذ سقراط عند اليونان، وأغسطين في عصر آباء الكنيسة ودلتاي وبرجسون وهوسرل وأوكن وأورتيجا وفوكو وجيو ونيتشه. وعشقوا مظاهر الحياة ومنها الفن في مدرسة "الفن للحياة" وعبرت الرومانسية عن عشق الحياة والوله بها، وجعلت الموت حياة. وقد ورد لفظ الموت في القرآن الكريم مئة وخمساً وستين مرة، موت البشر وموت الأرض. ثلثاها في صيغ اسمية والثلث في صيغ فعلية. العظام النخرة تعود وتبعث من جديد، (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)، (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ). الدورة الحياة فالموت فالحياة، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). الحياة بعد الموت في البعث والنشور كما دعا المسيح، (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً)، وكذلك (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ). والله يحيي الأرض بعد موتها بإنزال الماء عليها، (وَاللَّهُ أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره الموت ويكره مساءته. أما لفظ "حياة" فقد ورد في القرآن الكريم مئة وتسعين مرة، أكثر من لفظ "الموت". الحياة صفة لله مع العلم والقدرة. بل إن الحياة شرط للعلم والقدرة. فلا علم ولا قدرة دون حياة، ولا علم ولا قدرة إلا لحي، (وَتوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ). وهو اللفظ المكرر في رياضات الزهاد ومجاهداتهم للنفس "حي... حي... حي". كما ورد اللفظ في القرآن الكريم كصفة للإنسان والنبات. في حين ورد لفظ الموت مئة وخمساً وثلاثين مرة، موت البشر ، وموت الأرض. الحياة بينة وبرهان ووعي معرفي، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). القرآن الكريم إذن ثقافة حياة، وليس ثقافة موت. فكيف تستطيع الأمة أن تعود إلى القرآن من جديد لتغير ثقافة الموت الموروثة عبر التاريخ من فلسفة الزهد وعلم الكلام إلى ثقافة الحياة الأصيلة التي تحتاجها الأمة اليوم كي تحيا من جديد؟