ظل اسم الجنرال شارل ديغول يستدعي في المخيال الجمعي الفرنسي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، صورة القائد والبطل والمحرر وزعيم "فرنسا الحرة" ورمز المقاومة الوطنية والكرامة، وقبل كل شيء صاحب بيان 20 يونيو الشهير، الذي أطلقه معلناً رفض الاستكانة أو رفع الرايات البيضاء والاستسلام أمام المحتل النازي، الذي دخل باريس على إيقاع الموسيقى العسكرية. وطيلة العشرين سنة التالية على "التحرير"، ظلت أسطورة ديغول تتكاثف وتزداد رسوخاً وكثافة، إلى أن أزفت لحظة التمرد عليها، حين انخرط "اليسار" الفرنسي وتظاهرات الشباب في سنة 1968، في ما يشبه حملة التفكيك المتعمدة لمفردات هذه الأسطورة، من خلال عملية نزع صاخبة لكل هالة أو سطوة أو سلطة مترتبة عليها. ولكن ما أن توفي ديغول سنة 1970 حتى اختفت فجأة كافة أشكال المناوأة والاختلاف حوله، وتحول مجدداً إلى رمز إجماع وطني بعد أن كان زعيماً مثيراً للجدل والفرقة في أواخر أيامه في الحكم، لتعود بذلك الأسطورة الديغولية مجدداً لممارسة دورها الجامع وقوة تأثيرها الرمزي في الوجدان الفرنسي العام. هذا ما يذهب إليه المؤرخ البريطاني "سوذير هازاريسينغ" في كتابه "الأسطورة الديغولية" الصادر مؤخراً، الذي نسجل هنا إشارات خاطفة إلى بعض أفكاره. ولعل أول ما يستحق الإشارة هنا هو المفارقة الثقافية الكامنة في صدور هذا الكتاب المميز عن سيرة ديغول ومسيرته من طرف كاتب من الجانب الآخر من بحر المانش، وبلغة فرنسية رائقة، وأين... في بريطانيا نفسها التي يجهل قرابة نصف سكانها -ممن تقع أعمارهم بين 15-24 سنة- مَن يكون وينستون تشرشل! وهذا المؤلف نفسه، الذي يعمل أستاذاً للتاريخ في جامعة أوكسفورد، ربما يستحق هو أيضاً إشارة خاصة لكونه ينحدر من عائلة هندية من جزر موريشيوس، وقد عاش طفولته الأولى في باريس، كما يعتبر أحد أبرز المتخصصين في تاريخ نابليون بونابرت، وهو مؤلف كتاب مشهور عنه بعنوان "حكاية نابليون". ولعل الاشتغال المديد على التاريخ السياسي الفرنسي هو ما دفعه أصلاً لتأليف هذا الكتاب عن سيرة ديغول، تزامناً مع مناسبتين هما مرور 70 عاماً على "بيان 20 يونيو" وإعلان المقاومة، ومرور 40 عاماً على وفاة ديغول نفسه. وقد اعتمد الكاتب لإنجاز مؤلفه على مخزون هائل من الوثائق والمصادر العائدة إلى المؤسسة التي تحمل اسم ديغول، وكذلك أرشيف الرئاسة الفرنسية، مع تركيز خاص على مراسلات ديغول التي وقع عليها المؤلف بعدما رفعت السرية عنها مؤخراً. وخلال فصول الكتاب الستة يشتغل المؤلف "هازاريسينغ" على الذاكرة وفنون الاستخدامات السياسية المتصلة بها، بشكل عام، من خلال عملية تجميع مضنية لجزئيات الصورة المرتسمة عن ديغول في أذهان مواطنيه، والتي تمثل مفردات ما يسميه الكاتب "الثقافة الشعبية الديغولية". وتبدأ التفاصيل من نقطة الذروة في صعود ديغول السياسي والوطني يوم أعلن رفضه لهزيمة 18 يونيو 1940 مطلقاً شرارة المقاومة ضد الاحتلال النازي ضمن مخاضات وأهوال الحرب العالمية الثانية التي تكللت في النهاية بـ"التحرير" وانتصار "الحلفاء" ومعهم "فرنسا الحرة". وتلك اللحظة الفارقة من التاريخ هي التي تأسست عليها من البداية مشروعية ديغول في نظر الفرنسيين، وهي مشروعية ظل ذلك الزعيم يعيد التذكير بها في كل مرة، وخاصة في اللحظات الصعبة التي واجهت رئاسته، إلى حد دفعه للقول، ذات مرة، في وجه معارضيه: "مهما يكن من شأن الشرعية الديمقراطية للمؤسسات السياسية، فإن شرعيتي أنا أعلى، لأنها تستند الى علاقة مباشرة، وشخصية، شبه روحية، بيني وبين الشعب، هي تلك التي تأسست يوم 18 يونيو 1940"! غير أن جرعة صورة ديغول البطولية، أو بالأحرى أسطورته، ازدادت وتفاقمت لاحقاً مع التعديلات الدستورية التي فرضها وأدت إلى ظهور الجمهورية الخامسة، زيادة على انتزاعه حق النقض "الفيتو" لفرنسا في مجلس الأمن، وكذا صناعته للسلاح النووي، ليتحول شيئاً فشيئاً إلى أب للأمة الفرنسية، ووجه من وجوهها التاريخية ينازع في الألق والجاذبية نابليون وجان دارك وسواهما من أبطال وإيقونات التاريخ الفرنسي. ولعل هذا الجانب الإمبراطوري البطولي تحديداً من شخصية ديغول هو ما سعى الكتاب للتأكيد عليه، استجابة لفرضية عمل أو حتى حاجة ضمنية لدى المؤلف نفسه، لم يصرح بها، هي البحث عن أوجه شبه قوية بين ديغول والإمبراطور نابليون بونابرت، وكذلك حفيده نابليون الثالث، لقناعة راسخة بوجود حزمة من السجايا وعوامل العظمة القيادية يشترك فيها هؤلاء الرجال الثلاثة. وأخيراً، لعل من مزايا هذا الكتاب، إضافة إلى احتفائه ببطل سياسي وصانع تاريخ مثل ديغول، أنه يستجيب أيضاً لحاجة فرنسية قائمة الآن في سنة 2010 حيث تثار قضايا الهوية الوطنية بشكل حاد، ويتساءل الفرنسيون عن فاعلية ومصداقية العديد من وجوه طبقتهم السياسية، وخاصة في اليمين "الديغولي" الحاكم! وفي هذه اللحظة القلقة قد تعوض نوستالجيا العودة إلى تلبس روح الأسطورة الديغولية، وتجعل الفرنسيين يعيدون إنتاج إحدى أكبر أساطير تاريخهم السياسي المعاصر، بما هي رمز على قوة فرنسا، واستعصائها على الانكسار أو الانحدار. وأيضاً لأن الأسطورة في مثل هذه الأحوال قد تنثر نوعاً من الملح على تجهم التاريخ وعثرات السياسة. حسن ولد المختار الكتاب: الأسطورة الديغولية المؤلف: سوذير هازاريسينغ الناشر: غاليمار تاريخ النشر: 2010