"الخوف، والشك، وعدم الثقة تحتل عادة، على نحو وئيد وغير ملحوظ عقولنا وقلوبنا. هكذا يتحول الآخرون تدريجيّاً إلى مرايا سلبية لنا، ويتيح لنا اختلافهم عنا القدرة على تعريف أنفسنا، وعلى التعرف عليها في آن" هذا ما يقوله طارق رمضان أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة أكسفورد في بداية كتابه المعنون: "البحث عن المعنى: تطوير فلسفة للتعددية" الذي نعرضه في هذه المساحة. و"رمضان" نفسه مر بهذه التجربة شخصيّاً.. فباعتباره صوتاً مسموعاً من الأصوات الداعية للإصلاح في العالم الإسلامي، يتعرض بشكل شبه دائم للانتقادات والهجمات الشخصية في الغرب، خصوصاً من جانب الليبراليين الذين قد يرون غياب أي مظهر واضح لذلك الإصلاح المنشود. والسبب في تلك الانتقادات والهجمات في نظر المؤلف، هو الشك، وعدم الأمان الذي أصبح يهيمن على السياسات في الغرب، ويمنع الناس هناك من رؤية الآخرين بوضوح. ويصبح "الآخر" مرآة سلبية للذات ترى فيه كل ما تحاول إبعاده عنها من صفات، أو كل ما تخشى أن يكون متجسداً فيها دون أن تنتبه إليه في حين يراه ذلك الآخر بوضوح. وهذا في نظر"رمضان" يعني ضمناً أن العلاقة بين الذات والآخر هي علاقة هيمنة يكون فيها الطرف الأقوى، وهو الذات في هذه الحالة مطالباً بـ"عدم التمادي في استخدام ما يتمتع به من قوة في إلحاق الأذى بالآخر". وفي رأيه أن هذا القبول على مضض بالآخر، مضر بالطرفين معاً، أي بالطرف الذي يتحمل وجود الآخر، وبالآخر نفسه الذي يعتبر وجوده شيئاً يجب تحمله على مضض.. وفي حين أن المطلوب هو أن تكون العلاقة بين الاثنين قائمة على الاحترام، وعلى المساواة. ويرى أيضاً بحسب هذا التعريف أن التسامح يعني "اختزال الآخر في مجرد وجود... في حين أن الاحترام يفتح أمام الذات ما ينطوي عليه وجود ذلك الآخر من تعقيدات". ولعل الرسالة التي يريد "رمضان" توصيلها من خلال هذا الكتاب جلية وعاجلة في آن، ويمكن تخليصها في أن وجودنا ذاته، بات معتمداً على قدرتنا على بناء مجتمع عالمي متعدد، ومتناغم، يسوده الاحترام. بل إنه يرى أننا قد دخلنا بالفعل عالم السياسات الانفعالية، الذي تسيطر عليه ردود الأفعال العامة العفوية. وعن ذلك يقول "في هذا العصر من عصور الثورة الاتصالية، تحولنا إلى ضحية لموجات عاتية من الانفعالات العامة التي أوحت بذلك النوع من العنف الفاقد للعقلانية في العالم الإسلامي". وذلك كله يجعل الناس -كما يقول- في حالة استنفار دائم يؤدي حتماً إلى خلق شعور لديهم بأنهم قد باتوا مستهدفين بالظلم، وأنهم قد تحولوا إلى ضحايا.. وهو شعور قد تؤدي سيطرته على العقل إلى نزع أي نوع من الإحساس بالمسؤولية، بحيث يشعر الشخص المظلوم، أو الذي يعتقد أنه ضحية للآخرين، بأن من حقه توجيه اللوم لهذا "الآخر الخطر"، الموجود في أماكن بعيدة خلف البحار أو المحيطات، أو حتى في أماكن قريبة، بل وحتى الموجود بين ظهرانينا كي يشوش علينا القدرة "على معرفة من نحن على وجه التحديد". ويلفت المؤلف النظر في هذا الكتاب إلى أن خطر التهديد الذي يمثله الإرهاب صار كبيراً للغاية، إلى درجة أن تجاهل حقوق الإنسان في سياق الاستعداد لمواجهة ذلك التهديد، بات أمراً مقبولا، بل أمراً مسلماً به ولا يحتاج إلى جدال كثير. والعلاج كما يعتقد "رمضان" هو إعادة صوغ أنفسنا من الجذور. وهذه النقطة يؤكدها في كتابه مراراً وتكراراً كما لو كان يريد طبعها على صفحة عقل القارئ من أجل تجاوز الحدود الضيقة لممارسات التقليل من شأن الذات، والإحساس بالاستهداف من قبل الآخرين، والخوف من هؤلاء الآخرين بدون مبرر . وحول هذه النقطة بالذات يقول: "بدلا من أن نلقي اللوم فيما نعانيه على الآخرين، نحن بحاجة إلى فهم ماهية الأشياء والطبائع التي تحركنا، وتحليل تلك العُقد النفسية التي قد تدفعنا للانفعال، ومداواة الجروح، ومسببات القلق، ثم العمل الجاد بعد ذلك من أجل السيطرة عليها، والحيلولة بينها وبين تدمير الذات. كما أننا بحاجة أيضاً إلى تطوير قدرة نقدية تدفعنا إلى التفكير المتأني، وإلى الاحتجاج على الممارسات والأخطاء التي قد نرتكبها نحن وليس الآخر، وأن نتعرف على تاريخنا، وندرك أنه ليست هناك هوية شخصية أو مجتمعية نقية تماماً، وأننا جميعاً من صياغة مؤثرات متنوعة". كما أن علينا أيضاً أن نتخلص من الأنماط البالية من التفكير، وتلك النوعية من اليقينيات القطعية الهادفة لخدمة الذات في المقام الأول، وأن ندرك أننا لا نعرف عن أنفسنا سوى أقل القليل، وإن لم نعمل بدأب وإصرار من أجل تنمية إحساس عميق بالاحترام الفريد لكل كائن بشري، فإننا سندخل مرحلة خطيرة من الفراغ الأخلاقي. سعيد كامل الكتاب: البحث عن المعنى: تطوير فلسفة للتعددية المؤلف: طارق رمضان الناشر: دار "آلين لين" تاريخ النشر: 2010