من السنن الحياتية المتعارف عليها والراسخة في العقول والقلوب أنه لا توجد أمة حية متمكنة ومقتدرة إلا وتمتلك بدائل عدة في التفكير والتعبير والتدبير، تجربها كيفما أرادت، وحسب مقتضيات الحاجة، فإن أخفق أحدها، تذهب مباشرة إلى غيره، ساعية ما أمكنها للترقي في المعاش، متنقلة من حسن إلى أحسن، من دون توقف ولا تردد، وسائرة دوما إلى الأمام في خط مستقيم، متلمسة سنة الحياة السليمة والصحيحة، التي تقول إن الغد يجب أن يكون أفضل من اليوم، وأن هذا يسلم ذاك الراية في رضا واطمئنان، وإخلاص واضح وجلي للوطن. ومثل هذه الأمة لا تترك طرفا بعينه أيا كان يحتكر تقديم البدائل، بل تعطي الفرصة للجميع للمشاركة في صنعها، مهما كان موقعهم من السلطة، أو موقفهم منها، فالكل شركاء في الوطن والمسار والمصير، والمستقبل لن تكون مغارمه على طرف دون آخر، ولا يجب أن تصبح مغانمه لصالح جهة على حساب البقية، تحت أي زعم. أما الأمم التي تقف بعيداً عن التقدم، فتفتقد إلى إنتاج البدائل، حيث لا تصنع غير الحزب الواحد، ولا تزرع غير الأفكار والرؤى النمطية التي عفا عليها الدهر، وتسمي الركود استقرارا، وقلة الحيلة حكمة. وهذا الصنف من الأمم لا يمتلك غير مسار واحد، ولذا ترممه حتى لو تعمق الشرخ وصار عصيا على الترميم، وترتقه حتى لو اتسع الخرق على الراتق، وتضيع سنوات عديدة هباء في سبيل الاحتفاظ بهذا المسار، لأنها لا تعرف غيره. وترتضي أن تمضي الحياة يوما بيوم، فلا أفق ولا أمل، ولا خطة ولا تصور للمستقبل المنظور أو البعيد، مع أن العالم غني بالخيارات والبدائل والمسارات، لاسيما في أوقات الراحة والسلم، والتركيز على التنمية والرفاه والرخاء والتقدم والسعادة. ومن أسف فإن العديد من الدول النامية تعيش هذه الحال، فلا تمضي إلا في طريق واحدة. ومن أجل هذا الخيار الذي لم يختبر أحد مدى صوابه أو ملاءمته لواقعنا، تحشد كل الطاقات وتعمل أغلب العقول والنفوس في اتجاه واحد. وهنا تتحول خطب من بيده الأمر إلى برامج عمل، وتوجيهاته إلى قوانين، وتعليقاته العفوية إلى خطط، وإيماءاته إلى قرارات، تجد طريقها سريعا إلى التنفيذ، ربما بغير فحص. وفي ظل البديل الواحد تصبح القوى السياسية والاجتماعية المختلفة مع النظم الحاكمة مجرد حواشٍ باهتة على متن غليظ، ومجرد كائنات رخوة لا تصلب ظهرها في وجه السلطة، أو كائنات طفيلية تعيش على الفتات المتاح، وعلى البقايا التي تتركها النظم أو تنحسر عنها أرديتها الثقيلة، التي تغطي كل المجالات العامة، وبذلك تصبح عاجزة عن أن تطرح نفسها بديلا للنظام، أو تشكل "نظام ظل"، وتصير مغلولة اليد عن إنتاج تصور مختلف، يسعى إلى حشد مناصرين له، ومنافحين عنه، فتأتي ثمار أي كفاح أو نضال من أجل تحسين شروط الحياة، هزيلة، أو يكون حصاد الهشيم، هو النتيجة الطبيعية المتوقعة. وفي ظل البديل الواحد تختار السلطة، غالباً في بلدان العالم النامي، الإطار الذي يحكم التصرفات والتحركات والقرارات في الداخل والخارج، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي الحقوق والواجبات، ويكون على المؤسسات أن تخضع لهذا الإطار، ويفكر قطاع كبير من الجماعة العلمية والبحثية في الوسائل التي تخدمه، إما بحثا عن رضا المسؤول، أو لتجنب آثار غضبه، أو رضوخا للأمر الواقع، ويأسا من إصلاحه. وحتى القلة التي تحتفظ باستقلاليتها وتحاول أن تبدع بدائل أخرى، لا يجد إبداعها أي صدى، ولا يحظى بأي اهتمام أو رعاية، ولذا تبقى الأفكار البديلة حبيسة الأدمغة والأدراج، وكثير منها بكمد في صمت. ومع البديل الواحد تُفتقد أي الإدارة ناجعة متجددة قادرة على تجنب الكوارث، وإدارة الأزمات، وقبل كل هذا النهوض بالأمة، ودفعها إلى الإمام دفعا، لتأخذ موقعها اللائق في طابور الأمم. ومع البديل الواحد تتجمد حياتنا وتتوقف، أو تسير سير البطة العرجاء، بينما تسرع البلدان الغنية بالبدائل خطاها، فتتسع الهوة بيننا وبينها، ونصير بتتابع الأيام ذيلا لها، وعالة عليها، ننقل عنها، ونأخذ منها. إن بعض الدول العربية في حاجة إلى إبداع بدائل لا تنتهي لحل مشكلاتها التي تعقدت في كل مناحي الحياة. وهذا الإبداع لا يجب أن يتوقف مهما تعنتت الحكومات أو عمدت إلى وأد الأفكار والأعمال التي لا تأتي على هواها ومصالحها. ولا بد من أن نؤمن بأنه من الضروري أن يأتي إلى سدة الحكم من يدركون أن تجميد البدائل أو وأدها جريمة في حق الأمة ومستقبلها، ولذا من الواجب أن يجد هؤلاء الجادون المخلصون أفكارا عملية جاهزة، ليستخدموها في مواجهة التخلف، والأخذ بأسباب التقدم والرقي، لنظفر في نهاية المطاف بعالم عربي قوي قادر على الصد والرد، وتحقيق أحلام مواطنيه الذين يتحرقون شوقا إلى الحرية، ويتطلعون إلى حياة مادية أفضل، فتتحقق للأنظمة شرعيتها السليمة، وتمتلك الدول منعة وحصانة في مواجهة أي عدو أو طرف خارجي طامع. ودون ذلك ستجد الأنظمة العربية نفسها بنهاية المطاف في وضع لا تحسد عليه، كان يمكن بسهولة ويسر ألا تنزلق إليه أو تقع فيه. كاتب وباحث ـ مصر