نبّهني أحد أساتذة التاريخ العربي الحديث، إلى أهمية تسجيل الشهادات التي قدمها المشاركون العرب في الحروب، لتبقى سجلاً يستمد منه المؤرخون دراساتهم، بالإضافة إلى مذكرات كبار القادة والمحاضر الرسمية للحكومات. وإنني أعتقد بالنظر إلى هذا التنبيه أن لدينا فرصة ذهبية للحصول على شهادات من بقي على قيد الحياة من المحاربين العرب في حرب 1948، وذلك من خلال جهد منظم يقوم به أحد المراكز البحثية العربية أو من خلال جهد قُطري في الدول التي شارك منها المتطوعون ورجال الجيش في تلك الحرب. وأعتقد أيضاً أن الفرصة ما زالت متاحة بصورة أكبر لجمع الشهادات عن حرب يونيو 1967 وكذلك حرب الاستنزاف للقوات الإسرائيلية على خط قناة السويس التي نشبت بعد أقل من شهر من حرب يونيو المذكورة، وذلك في أول يوليو 1967 بمعركة رأس العش وتواصلت على نحو يومي برّاً وبحراً وجوّاً على نحو أنهك القوات المحتلة. لقد انتهت هذه الحرب في الثامن من أغسطس 1970 بعد قبول مصر وإسرائيل لـ"مبادرة روجرز" وزير الخارجية الأميركي آنذاك لوقف إطلاق النار. إن هذه الحرب لم يمضِ عليها سوى ثلاث وأربعين سنة حتى الآن، وبحساب متوسط أعمار المحاربين العرب فيها سنجد أن أعمارهم تتراوح الآن بين الستين والسبعين، ويمكننا أن نجد أعداداً كبيرة منهم تقدم شهادات عن المسيرة اليومية لهذه الحرب التي أطلق عليها المؤرخ العسكري الإسرائيلي "مردخاي ناؤر" اسم حرب الألف يوم، في الكتاب الذي أصدره بالتعاون مع وزارة الحرب الإسرائيلية عام 1999 تحت عنوان "كتاب الذكرى الخمسين على قيام إسرائيل". وقد اعتبر المؤرخون العسكريون الإسرائيليون أن هذه الحرب هي أطول حرب ضارية خاضتها إسرائيل. غير أنني ألاحظ للأسف، أن هناك تكاسلاً في إلقاء الضوء الكافي عليها من جانب الكُتاب المعاصرين ربما لأن عيونهم مركزة على هزيمة يونيو 1967 وانتصار أكتوبر 1973. لقد استمعت بناء على طلبي إلى مجموعة من المقاتلين في حرب الاستنزاف أو حرب الألف يوم على جبهة قناة السويس. ويمكنني تقديم صورة عامة هنا عن هذه الشهادات. إن الملمح الرئيسي في هذه الصورة يشير إلى أن المقاتلين المصريين الذين تجمعوا على الحافة الغربية من قناة السويس بعد احتلال الضفة الشرقية، أي ضفة سيناء، في الخامس من يونيو، كانوا يعتمدون في الدرجة الأولى خلال الشهور الأولى من حرب الاستنزاف على معدات خفيفة فقط مثل الأسلحة الشخصية والرشاشات الخفيفة وقاذفات مضادة للدروع. وهذا الملمح يبين أن المعارك الضارية التي دخلها المقاتلون المصريون كانت تعتمد أساساً على روح المقاومة العالية التي استجمعوها بسرعة بعد أسابيع قليلة من هزيمة يونيو على رغم انعدام التكافؤ في الوسائل القتالية مع القوات الإسرائيلية. وتتضح هذه الحقيقة في معركة قرية رأس العش على الضفة الشرقية للقناة عندما حاولت القوات الإسرائيلية احتلال القرية التي كانت تفصلها عن مدينة بور فؤاد ومدينة بورسعيد كيلومترات قليلة. فلقد خاض الرجال بالأسلحة الخفيفة معركة طويلة ضد طوابير المدرعات المدعومة بالطيران والمدفعية وتمكنوا من وقف هذه الطوابير بعد تدمير أعداد كبيرة من الدبابات. وهذه الروح المعنوية الفذة تتضح أكثر خلال المعارك التي دارت على جبهة القناة إلى ما قبل وقف إطلاق النار بقليل، فلقد كان الطيران الإسرائيلي المزود بالتكنولوجيا الأميركية المتقدمة يغطي سماء الجبهة بكل ارتياح، فلم تكن لدى قوات الدفاع الجوي المصري أية صواريخ مضادة للطائرات، وكانت تعتمد على المدافع السوفييتية المضادة للطائرات التي كانت تستخدم في الحرب العالمية الثانية. وقد حارب الرجال ألف يوم تحت السيطرة الجوية الإسرائيلية، ومع ذلك أنهكوا القوات الإسرائيلية إنهاكاً شديداً يعترف به المؤرخون الإسرائيليون العسكريون. فهل تستحق ملحمة الألف يوم أن نجمع شهادات حية عنها؟ أعتقد أن الإجابة بنعم.