في الوقت الذي تتركز فيه الأنظار على السفن التي تحمل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة المحاصر، تمخر سفينة المستقبل العربي عباب "مثلث برمودا" الحافل بالمخاطر: العدوانية الإسرائيلية، والنووية الإيرانية، والتحولات التركية. تكبح الضغوط الدولية على إيران جماح دورها المستجد، وتعرقل المبادرات التي بدأت القيام بها بحيوية واندفاع. ومع ذلك فإن لإيران امتدادات وتحالفات وإمكانات لا تزال تستطيع معها أن تحرك تيارات تفاجئ السفينة العربية وقد تجرها إلى مواجهات غير متوقعة. أما في الوقت الحاضر فإن الخطر يتمركز على التيارات المتمثلة في المتغيرات التركية والإسرائيلية وفي دور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تحريكها بمعزل عن حسابات وتوقعات السفينة العربية التي تتحرك على قاعدة "سيري فعين الله ترعاكِ"! فإسرائيل تحاول أن توحي بأنها بوابة تركيا إلى واشنطن وإلى الاتحاد الأوروبي. وتحاول تركيا أن توحي لإسرائيل بأنها بوابتها إلى العالمين العربي والإسلامي. فيما تحاول إيران أن تفرض معادلة تقوم على أساس أن الدخول إلى العالم الإسلامي، أو حتى التقرب منه، يحتم الحصول على تأشيرة "رضا إيرانية". وتشكل التباينات في منطلقات ومواقف كل من أنقرة وإسرائيل وردّ الفعل الإيراني عليها مصدر الخطر الذي يواجه السفينة العربية في إبحارها في مثلث برمودا السياسي. ذلك أن إسرائيل تعتمد استراتيجية تقوم على أساس أنها محوطة بالأعداء، فيما تقوم الاستراتيجية التركية على مبدأ أنها محوطة بالأصدقاء. وهذا يفسر الانفتاح التركي والانغلاق الإسرائيلي. كما أنه يفسر الدبلوماسية الناعمة التي تعتمدها أنقرة لحل المشاكل العالقة مع دول الجوار وبناء جسور الثقة والتعاون معها.. فيما تعتمد إسرائيل دبلوماسية القوة العسكرية وتنغلق على ذاتها، وتبقى دائماً في حالة توتر وتحفز واستعداد للحرب والعدوان، معمقة هوة اللاثقة واللاتعاون. فالسياسة الخارجية الجديدة لتركيا تقدم نموذجاً للدبلوماسية القائمة على قاعدتي الحوار والتفاهم. وهي دبلوماسية تساعد على طي صفحات الماضي بما فيها من خلافات واختلافات (التسوية مع أرمينيا مثلاً). وتقدم السياسة الإسرائيلية نموذجاً معاكساً تماماً يقوم على رفض مقررات ومواثيق وقوانين المجتمع الدولي، وعلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (الحرب على غزة 2008، وقبلها الحرب على لبنان 2006 مثلاً). لقد استطاعت تركيا أن تحول حدودها مع سوريا من حدود مزروعة بالألغام الى حدود مفتوحة (دون تأشيرة) لمرور الأشخاص والبضائع. وهي تفعل الأمر ذاته مع إيران؛ وقد جاءت زيارتا وزير خارجيتها أحمد أوغلو إلى كل من إقليم كردستان (شمال العراق) وزيارة رئيس الحكومة أردوغان إلى اليونان بمثابة توسيع لاستراتيجية الانفتاح وبناء الجسور. فيما تواصل إسرائيل بناء الجدران الإسمنتية والمعنوية، معتقدة أنها قادرة على القفز من فوق الشرق الأوسط كله إلى الاتحاد الأوروبي، وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة. وتتمحور الاستراتيجية الإسرائيلية حول مبدأ "الدفاع عن النفس". وبموجب ذلك فإنها تنتقل باستمرار من حالة العدوان إلى حالة التهديد بالعدوان، الأمر الذي عطل ولا يزال يعطل المبادرات السياسية، ويشجع في الوقت ذاته المبادرات الاستيطانية. وخلافاً لذلك تتمحور الاستراتيجية التركية حول مبدأ الدفاع عن الأصدقاء. وفي هذا الإطار كانت مساعيها بين سوريا وإسرائيل. وكانت مبادرتها مع البرازيل لمعالجة الملف النووي الإيراني. وكان انفتاحها المثير على إقليم كردستان العراق، وهي التي كانت تبدي أكثر من أي دولة أخرى تعيش فيها أقليات كردية، قلقاً من أن تتحول كردستان العراقية إلى نواة لدولة كردية كبيرة تقتطع مساحات واسعة من تركيا وإيران وسوريا كذلك. وفيما تقوم علاقة تركيا مع حلف شمال الأطلسي على التعاون العسكري، تقيم إسرائيل علاقتها مع الحلف على قاعدة استخدامه في صراعها مع العالم العربي. ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي ثبت بطلان النظرية السياسية التي تعتبر إسرائيل خندقاً أماميّاً للحلف، وتأكدت النظرية المعاكسة التي جعلت من الحلف قوة خلفية لدعم إسرائيل في توجهاتها السياسية وفي مغامراتها العسكرية! لقد نجحت كل من تركيا وإسرائيل في توظيف "إرث" تاريخي من أجل الدفاع عن مصالحها المعاصرة. فتركيا وظفت الإرث العثماني الإسلامي لترميم علاقاتها مع العالم العربي، التي كانت تراجعت منذ قيام الحركة القومية الطورانية في تركيا ونجاح مصطفى كمال أتاتورك في تغيير هوية الدولة رأساً على عقب. فالإرث العثماني كان جسراً ثقافيّاً ومعنويّاً عبرت عليه تركيا الحديثة إلى العالم العربي من جديد. وكذلك نجحت إسرائيل في توظيف إرث اللاسامية في أوروبا من خلال ابتزاز الدول الأوروبية اقتصاديّاً وسياسيّاً وحتى عسكريّاً. وبموجب ذلك تقدم تركيا نفسها نموذجاً لإسلام حديث منفتح ومواكب لحضارة القرن الحادي والعشرين، فيما تقدم إسرائيل نفسها نموذجاً للعنصرية الدينية المتزمتة على غرار نظام "الأبارتايد" الذي سقط في جنوب أفريقيا. ولا يعني النجاح التركي طبعاً أن تدير أنقرة ظهرها الى الغرب. فهي باقية عضواً في حلف شمال الأطلسي. وستبقى تحاول الدخول إلى الاتحاد الأوروبي. أما إسرائيل فإن نجاحها يكرس قرارها إدارة ظهرها للعالمين العربي والإسلامي، بل استعداءهما.. معتمدة في الدرجة الأولى على الغرب.. وعلى ورقة ابتزازه من خلال استخدام ورقة "الهولوكوست". وقد أقام النجاح التركي جسراً بين الغرب والعالم الإسلامي (التعديلات الجديدة التي أدخلت على الدستور وعلى القوانين التركية التي تتعلق بالحريات الدينية والإثنية مثلاً). أما النجاح الإسرائيلي فعزز إمكانات إسرائيل على توسيع الهوة بين الغرب والعالم الإسلامي (سوء توظيف جريمة 11 سبتمبر 2001 في الإعلام الصهيوني العالمي مثلاً). وفي خضم هذه التباينات الجوهرية في الاستراتيجية الإسرائيلية والتركية، تحاول الولايات المتحدة الالتفاف عليهما في محاولة منها لتوظيف قدرات وعلاقات كل منهما في خدمة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. فواشنطن تضغط على تركيا باتجاهين أساسيين. الاتجاه الأول هو إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد التدهور الخطير الذي أصاب هذه العلاقات إثر العدوان الإسرائيلي على "أسطول الحرية" في أعالي البحار، ومقتل تسعة من الرعايا الأتراك على يد الجنود الإسرائيليين. أما الاتجاه الثاني فهو التراجع عن -بل الانسحاب من- المبادرة التركية- البرازيلية لتسوية الملف النووي الإيراني، والهدف من ذلك ليس الضغط على طهران لحملها على قبول الشروط الأميركية فحسب، وإنما لتجريد أنقرة من ورقة التحرك السياسي الحُرّ في المنطقة من وراء ظهر واشنطن، أو من دون تفويض منها. ووسط هذا المثلث البرمودي الخطير التركي- الإسرائيلي- الإيراني، تمخر سفينة المستقبل العربي من دون استراتيجية عربية واحدة تشكل "بوصلة" تحدد الاتجاهات أمامها. ومن دون مخطط للعمل العربي المشترك يشكل آلية للتحرك. أي من دون أشرعة ولا محرك.. والله المستعان، وهو المدبر!