كانت ردود الفعل على تسريب وثائق رسمية عن الحرب في أفغانستان متقاربة في واشنطن وكابول وإسلام آباد. كانت تشي برغبة في ما لو كانت هناك رقابة مسبقة تمكن من تفادي نشر تلك الوثائق، وهي عمليّاً نشر للغسيل الوسخ لحرب لم يعد قادتها وجنودها منذ زمن مقتنعين بأنها ضرورية أو مجدية. فلا هم عثروا على أسامة بن لادن، الاسم الكودي لـ"النصر" الذي يسعون إليه، ولا هم أوقفوا "الإرهاب"، ولا صنعوا استقراراً للأفغان والباكستانيين ليحظوا بشيء من الامتنان، والأهم أنهم تحولوا مثل الأفغان و"الأفغان العرب" أنفسهم إلى محاربين يعرفون كيف دخلوا الحرب ويجهلون كيف الخروج منها. حرب غير مقنعة، غير مجدية، لا ينتصر فيها إلا الذين التقطوا خيط الاستفادة والتربّح، ولتذهب أحلام التنمية وتحسين العيش و"بناء الأمة" إلى الجحيم. وحدهم أبطال الفساد، في أفغانستان كما في العراق، برهنوا أنهم الأكثر حكمة وواقعية وشطارة. ولأن الحروب هي، تعريفاً، مطحنة لأرواح البشر والقوانين والأخلاق، فإن "فضيلة" الفاسدين أنهم قد يخوضونها بأقل نسبة من التلطخ بالدم. والدليل أن أحداً لن يذكرهم، في حين أن ناشري الوثائق على موقع "ويكيليكس" استحقوا من وزير الدفاع الأميركي اتهاماً بأن أيديهم "قد تكون" ملطخة بالدم. هو لم يقرر بعد ما إذا كان بإمكانه توجيه الاتهام أم لا، ربما لأن الخبراء القانونيين لم يتوصلوا إلى بناء القضية، لكنهم يسعون في سبيلها. وفي الوقت نفسه، من قبيل التحوّط، أطلقت "جماعة ويكيليكس" حكماً أوليّاً يمكن أن يحميها، أو يتيح المساومة، إذ قال جوليان أسانج إن الأدلة في الوثائق، خصوصاً تلك التي لم ينشرها، تشير إلى "احتمال" أن تكون هناك "جرائم حرب" قد ارتكبت. انطلق السباق محموماً، إذن، وصولاً إلى المعركة القانونية، الواقعة لا محالة. هل للوثائق حصانة متضمنة في طبيعتها وتمنع بالتالي نشرها؟ وهل التسريب جرم يستحق العقاب؟ وهل يجوز محاسبة الناشر بمعايير "الأمن القومي" وحماية الجنود وصولاً إلى حماية المخبرين، خصوصاً إذا كان العدو هو "الإرهاب"؟.. هذه مجرد نماذج أولية لصداع الأسئلة الذي ضرب الرؤوس، ولا يبدو أن القوانين المتوافرة قادرة على معالجته، ولو كانت الحرب في أفغانستان لا تزال ذات شعبية لبدت "ويكيليكس" أشبه بالعدو رقم واحد للرأي العام. في بداية الحرب أدت صورة لتوابيت مغلفة بالأعلام الأميركية، وفيها جثامين لجنود قتلى، إلى فورة غضب ونقمة على الجريدة التي نشرتها. أما الآن فتغيرت النفوس واعتادت على توقع ما لا يمكن تصوره من الحقائق والفضائح. هذا هو الإعلام الإلكتروني، مفخرة الحداثة وما بعدها، يضرب ضربته، الآتي سيكون أكثر إيلاماً لكل من يعمل أو يستوجب عمله إخفاء الحقائق. يمكن تدجين الصحافيين ومحاصرتهم والتضييق عليهم لإبعادهم عن الأسرار، لكن أحداً لن يستطيع رصد من سيكون المخبر المقبل. كانت تسريبات فضائح التعذيب في العراق، في جوانتانامو، وفي السجون السرية، ردّاً على الانحراف الذي ذهبت إليه التعليمات الرسمية إلى الجنود بجواز التفنن والابتكار والتمتع بإذلال السجناء والتنكيل بهم. أما الوثائق الجديدة فتظهر المدى الذي بلغته الاستهانة بقتل المدنيين الأفغان، وكذلك المبالغة في تحميل الروايات الرسمية تضليلاً في الحديث عن مجريات الحرب. فهل إن مثل هذه "الأسرار" كان يصون "الأمن القومي" أم يحمي فضيحة أن دولاً كبرى محترمة كانت نموذجاً تتوق إليه الأمم وأصبحت تنافس أكثر أعدائها انحطاطاً على الممارسات المخزية. عندما باشرت الصحافة المكتوبة مسيرتها لم يكن معلوماً إلى أين يمكن أن تمضي، وكذلك الإذاعة، ثم الإعلام المرئي والمسموع. ومن الواضح أن الإلكتروني لم يكشف بعد كل قدراته وأبعاده، تحديداً في جعله الإعلام وسيلة شخصية بمقدار ما هي عامة. ولاشك أن قضية وثائق حرب أفغانستان ستطلق سعياً حثيثاً نحو التقنين والقوننة، لوضع الضوابط وتوضيح الممنوعات خصوصاً في حالات الحرب. ومع ذلك، استطاع الإعلام الإلكتروني أن يحقق اختراقاً في نظرة الرأي العام إلى السياسات وبالأخص إلى قرارات الحرب وإمكان محاكمتها عندما تكون خاطئة، أو تتخذ بعقلية لا تنتمي إلى العصر.