اليوم هو الثاني من أغسطس، وتعود معه ذكرى أليمة للكويتيين وللعرب جميعاً، هي ذكرى الغزو والاحتلال العراقي لدولة الكويت الذي كان الشرارة الكبيرة للتغييرات الجذرية اللاحقة في الخليج والشرق الأوسط، وغيَّر من التضاريس وموازين القوى وأخرج العراق من معادلة الأمن الإقليمي والعربي، ومهد لعصر الوهن والتفتيت العربي. كما دخلت الولايات المتحدة كلاعب رئيسي في الشأن الإقليمي عبر مشروعها الذي أطلقت عليه اسم "الشرق الأوسط الكبير" وصولاً إلى إسقاط النظام العراقي وفرض معادلة "توازن قوى" مصطنع في إقليم دائم الاحتقان بسبب تحول العراق إلى دولة فاشلة، مما سمح للقوى الإقليمية الأخرى بتقديم مشاريعها لملء الفراغ وتوظيف أوراقها انطلاقاً من العراق وحتى المساومة على ورقة بلاد الرافدين لتحقيق مشروعها الكبير، مستفيدة من الوضع القائم الآن سواء كانت إيران أو تركيا أو إسرائيل. ولذلك كانت كارثة الاحتلال العراقي لدولة الكويت بمثابة الرافعة لمشاريع تلك القوى لملء الفراغ، وتوظيف أوراقها وحلفائها بذكاء، وحتى للاستقواء وتصفية الحسابات وزيادة مكاسبها على حساب الأطراف العربية. وحتى دولة الكويت التي كانت تقود محور الصقور في رفضها لوجود قواعد عسكرية في منطقة الخليج أصبحت الدولة الأولى في المنطقة التي تؤيد وجود القواعد العسكرية وتسمح بوجودها، وتتحول إلى دولة محورية في الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج. وفي هذا الوقت وإن تغيرت طبيعة التهديدات من النظام العراقي الحالي عما كانت عليه تحت حكم صدام حسين، من غزو واحتلال و"بلطجة" وابتزاز، إلى عراق لا يزال قيد التشكيل، متشظٍّ ومقسم بكل ما تعنيه الكلمة بين أجزائه المتصارعة والمتناثرة، وعلى رغم تمسكنا في الكويت ودول مجلس التعاون الخليجي بوحدة وسيادة العراق، إلا أن وحدات العراق اليوم، لا تشكل عراقاً موحداً، بالمعنى المثالي الذي يطمح إليه الجميع. بل إن التقرير السنوي لـ"صندوق السلام" ومجلة "فورين بوليسي" عن الدول الفاشلة، يضع العراق في المرتبة السابعة من بين 177 دولة. وفي تاريخ الشعوب والأمم، ثمة أحداث ومصائب وكوارث ترسم واقع ومستقبل تلك الدول والمجتمعات، وتشكل علامة مفصلية ومحورية في تاريخ وتطور الدول والكيانات. وبالنسبة للكويت، وعلى رغم مرور عقدين من الزمن على تلك الكارثة، ستبقى ذكرى الغزو والاحتلال العراقي محل استحضار واسع عاماً بعد عام، لتشكل مرحلة مفصلية في تاريخنا وواقعنا، حتى يتغير الوضع القائم بين البلدين، ويستبدل بالوضع المرغوب القائم على بناء ثقة وشراكة تطمئن كل واحد من الطرفين على نوايا الطرف الآخر تجاهه، وعلى نحو يهدئ الخواطر ويطمئن النفوس بشكل كامل. ويقول علماء الاجتماع عادة إن الإنسان حتى يستطيع أن يسامح ويعفو عن الإساءة عليه أن ينسى أولاً، وعلى رغم عودة العلاقات بين البلدين منذ عام 2004، وتبادل السفراء خلال العامين الماضيين، إلا أن العلاقة بين الكويت والعراق لا تزال مرتبكة وضبابية، وليست طبيعية، وتفتقد الزخم والحماس. ولا يبدو أن الشرخ الكبير والكارثة أو خطيئة الغزو والاحتلال العراقي للكويت سيتم نسيانها قريباً وسط مطالبات بتضمين كارثة الاحتلال العراقي للدولة الجار الكويت في مناهج الدراسة، واستمرار وسائل الإعلام الكويتية الرسمية في ذكرى كارثة الاحتلال العراقي تستحضر -في سنتنا هذه للمرة العشرين- تلك الكارثة بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية، ونتائجها الكارثية على جميع الأصعدة، بما في ذلك جراحها النازفة في قضايا الشهداء والأسرى، وآثارها الأليمة على البشر والحجر وحتى على البيئة. وفي المقابل يصر البعض في النظام العراقي، من كتل سياسية ونواب وبقايا بعثيين، بين الحين والآخر، على رش الملح على الجرح الكويتي الذي لم يندمل بعد، ونكء الجراح واستحضار المظالم ورفض ترسيم الحدود والتشكيك في شرعيتها، والمطالبة بإسقاط الديون وإلغاء التعويضات المقرة من مجلس الأمن، بل ويذهب بعض المسؤولين العراقيين إلى اتهام الكويت بالتآمر وإبقاء العراق ضمن "الفصل السابع" وغيرها من اتهامات! ولاشك أن تلك المواقف تؤكد لنا في الكويت العقلية المعششة لدى بعض الأطراف العراقية الغارقة في التصيّد والانتقام. ومثال على تلك العقلية، كان تعليق النائب المستقل وائل عبداللطيف الذي هدد الكويت إذا ما استمرت في مطالبتها بحقها في التعويضات، قائلا: "إن البرلمان العراقي ربما يفكر ويطالب برفع دعوى قضائية ضد الكويت في المحافل الدولية بتهمة مساعدتها لنظام صدام (في فترة الحرب العراقية- الإيرانية) التي نتج عنها أذى كبير للشعب العراقي جراء تلك المساعدة.. ونمتلك القدرة للعراك بالأيدي والألسنة. ونمتلك القدرة بالمعنويات والإرادة القوية، والقدرة على كل شيء، للمطالبة بحقوقنا حتى من الكويت نفسها". هذا في الوقت الذي تبادل فيه الكويت الجانب العراقي بمواقف إيجابية يعبر عنها الساسة الكويتيون، بالمطالبة بـ"عراق آمن ومستقر ليكون ضمانة لأمن واستقرار الكويت والمنطقة"، كما علق وزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد الصباح آملاً "أن تنتج الانتخابات الفكر المنفتح في العراق الجديد المسالم الملتزم بالقانون الدولي والشرعية الدولية، وأن يكون جزءاً أساسيّاً من منظومة الأمن الإقليمي العربي.. وأن يخرج العراق أقوى مما هو عليه". وفي مايو الماضي كتبت في هذه الصفحة مقالاً بعنوان "الكويت والعراق... جراح لا تندمل" مطالباً العراق بانتهاج سياسة بناء الثقة، وطمأنة الكويتيين إلى نوايا النظام العراقي الجديد. كما أن على الكويت طمأنة العراق والمساهمة في تنميته في شراكة ونهج مفيدين للطرفين. على أمل أن يساهم ذلك مع مرور الوقت في تحقيق النقلة الكبيرة في العلاقة بين البلدين، التي طال انتظارها. لقد باتت الحاجة ملحة للطرفين الكويتي والعراقي بعد مرور عقدين من الزمن على أكبر أزمة هزت البلدين، ومعهما النظام العربي ككل، للخروج من إرث ومظالم الماضي، والتطلع قدماً إلى المستقبل للاستفادة من دروس الأزمة لصالح البلدين والشعبين والشأن العربي. وقد باتت الحاجة ملحة للخروج من هذه الحالة المحبطة والمراوحة العقيمة، حتى لا تبقى العلاقة باردة والتطبيع مجمداً والجمر تحت الرماد. على أمل أن يساعد ذلك في اندمال الجراح الغائرة!