من الممكن تقسيم تاريخ الجنس البشري إلى ثلاث مراحل رئيسية؛ الأولى هي مرحلة الصيد والجمع، تليها مرحلة الزراعة والحياة في القرى، وفي النهاية مرحلة التمدين أو الحياة في المدن، وهي المرحلة الحالية التي يطلق عليها أحياناً مرحلة الحياة العصرية. وعلى رغم أن جزءاً كبيراً من أفراد الجنس البشري لا زال يعيش حياة تعتمد في أساسها على الزراعة، إلا أن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، أو ما يزيد على 3.3 مليار إنسان يعيشون حاليّاً في تجمعات مدنية حضرية، وهو العدد الذي يتوقع أن يزداد إلى 5 مليارات بحلول عام 2030، حسب تقديرات صندوق السكان التابع للأمم المتحدة (United Nations Population Fund). وهذه الزيادة إما أنها نتيجة هجرة سكان الريف إلى المدن بحثاً عن وظائف ومستوى أفضل من المعيشة، أو نتيجة للزيادة الطبيعية لسكان المدن، وفي كلتا الحالتين، يبدو أن هذه الزيادة غير قابلة للتوقف أو التراجع ولو بشكل طفيف. وليس بالخفي أن حياة التمديُن، تفرض تحديات خاصة على الجوانب المختلفة للحياة الإنسانية، وخصوصاً الجانب الصحي أو الطبي. فالتمدين دائماً ما يترافق بقلة النشاط الحركي والبدني، بسبب زيادة الاعتماد على التكنولوجيا واستخدام وسائل المواصلات الحديثة، والابتعاد عن الوظائف والمهن التي تتطلب مجهوداً بدنيّاً. ومن المعروف والثابت أن قلة الحركة والنشاط البدني تعتبر من أهم عوامل الخطر خلف الإصابة بالسمنة، وما ينتج عنها من إصابة بالسكري، وأمراض القلب والشرايين، ومن ثم الوفيات المبكرة. ويؤثر التمدين أيضاً على الصحة النفسية بشكل كبير، فتزداد الاضطرابات النفسية والعقلية بين سكان المدن، مثل الاكتئاب، والقلق المزمن، والعزلة الاجتماعية، والميول الانتحارية، مقارنة بأمثالهم من سكان الريف. وفي الآونة الأخيرة أدرك الأطباء أهمية جانب آخر من حياة المدن، وهو انخفاض نوعية غذاء سكانها. فعلى رغم أن سكان المدن يحصلون على كميات أكبر من السعرات الحرارية -وهذا سبب آخر للسمنة- مقارنة بسكان الريف، من خلال أغذية مرتفعة التكلفة أو باهظة الثمن، إلا أن غذاء المدن يفتقر إلى عناصر غذائية أساسية، مثل الفيتامينات، وبعض المعادن والأملاح، الضرورية للحفاظ على صحة الجسم ووقايته من الأمراض. ويأتي هذا النقص، بسبب نمط حياة المدن، الذي يعتمد على الأغذية سريعة الطهي، مع تراجع محتواها من الخضروات والفواكه الطازجة. ولفترة طويلة اعتقد الأطباء أن من الممكن تعويض النقص في هذه العناصر الغذائية، من خلال ما يعرف بالمضافات الغذائية أو الفيتامينات في كبسولات. وهذا الاعتقاد الراسخ إلى حد كبير، بدأت تحيط به الشكوك في الآونة الأخيرة، مع تواتر الدراسات التي تظهر أن تناول هذه المضافات، قد يحمل في طياته أخطاراً أشد وقعاً من الفوائد المرجوة منه. وعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة صدرت عن جامعة "كوبنهاجن" بالدانمرك، قام فيها العلماء بمراجعة نتائج 67 دراسة سابقة شملت 233 ألف شخص، أن مضافات الفيتامينات، وخصوصاً تلك المعروفة بمضادات الأكسدة مثل فيتامين (A) و (E) و(beta-carotene) لا تحقق أية فائدة صحية، بل على العكس قد تؤثر سلباً على دفاعات الجسم، وربما تؤدي للوفاة المبكرة. وليس من الواضح كيف يمكن لهذه الفيتامينات أن تؤدي إلى تلك النتائج العكسية، وإن كان العلماء الدانمركيون يخمنون أنها قد تؤدي إلى اضطراب في العمليات الكيميائية الحيوية في الجسم، وفي كيفية تعامله مع الدهون. وعلى المنوال نفسه أظهرت دراسة نشرت بداية هذا الأسبوع في إحدى الدوريات الطبية المرموقة، وأجراها علماء جامعة "آبردين" باسكتلندا، أن من يتناولون مضافات عنصر الكالسيوم بشكل منتظم، تزداد لديهم احتمالات الإصابة بالذبحة الصدرية بنسبة 30 في المئة. وكما هو الحال مع العلماء الدانمركيين، لم يستطع العلماء هنا أيضاً تفسير سبب هذه النتيجة العكسية. ويطرح البعض تفسيراً مبنيّاً على أن ارتفاع نسبة الكالسيوم في الدم بسبب تناول الحبوب أو الكبسولات، يتسبب في ترسبه في جدران الشرايين، ومن ثم تصلبها وانسدادها. والغريب في هذه الدراسة، أن الأشخاص الذين كانوا يحصلون على احتياجاتهم من عنصر الكالسيوم من الغذاء الطبيعي، مثل الحليب، والأجبان، ومنتجات الألبان، والخضروات ذات الأوراق الخضراء، لم ترتفع لديهم احتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب والذبحة الصدرية، مثل من كانوا يحصلون على احتياجاتهم من خلال الحبوب والكبسولات. ونتائج هذه الدراسة -إن تأكدت من خلال دراسات أخرى- وعرف الميكانيزم الذي تتسبب من خلاله مضافات الكالسيوم في هذه النتيجة السلبية، سيكون له وقع كبير على الممارسات الطبية اليومية، في ظل حقيقة أن الملايين من الأشخاص يتناولون مضافات الكالسيوم، كخط دفاع رئيسي أمام هشاشة العظام. وهذا المرض يصيب في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 10 ملايين شخص، ولا يختلف الوضع عنه كثيراً في بريطانيا، حيث تصيب هشاشة العظام ثلاثة ملايين بريطاني، أو امرأة من بين كل ثلاث من النساء ورجلا من بين كل اثني عشر رجلا، ممن هم فوق سن الخمسين. وتتسبب هشاشة العظام وضعفها في حوالي 200 ألف حالة كسر سنويّاً في بريطانيا، يلقى 40 منهم حتفهم يوميّاً. وهؤلاء المرضى، وغيرهم عشرات الملايين من المصابين بهشاشة العظام أو لين العظام، يجب عليهم زيادة محتوى غذائهم من الكالسيوم، مع التعرض لأشعة الشمس المباشرة بمقادير كافية للحصول على فيتامين (D) الضروري لامتصاص الكالسيوم من الأمعاء، بدلا من التسرع والاستسهال واللجوء إلى حبوب وأقراص الكالسيوم، على الأقل إلى أن تتضح الصورة بشكل كامل.