يكتسي موضوع الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة أهميةً مركزية بالنسبة لأي اتفاق سلام إسرائيلي- فلسطيني شامل، يمكن تصور التوصل إليه في المستقبل. والواقع أنه سبق لعدد من الإدارات الأميركية أن نددت بالاستيطان الإسرائيلي باعتباره عملا غير شرعي ويشكل عقبة أمام السلام، ولكنها لم تكن مستعدة للضغط على إسرائيل حتى توقف نشاطها الاستيطاني. وقد دعمت إدارة أوباما التزامها بتحقيق تسوية سلمية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني بمقاربة من شقين تقوم على إعادة التأكيد بشكل أكثر حزماً على الموقف الأميركي التقليدي المتمثل في أن المستوطنات مخالفة للقانون وتمثل عقبة أمام السلام، إضافة إلى مطالبة إسرائيل علناً بوقف كل أنشطتها الاستيطانية. وفي هذا السياق، قال أوباما في خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر سبتمبر الماضي: "إن أميركا لا تعترف بشرعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية". وبعد إعلان الحكومة الإسرائيلية المتحدي في مارس الماضي عن مخططات لبناء مزيد من المستوطنات أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي إلى إسرائيل، جاء رد الفعل الأميركي قويّاً وغاضباً، حيث دعت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون رئيسَ الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى "أن يدرك أن الولايات المتحدة اعتبرت الإعلانَ مؤشراً سلبيّاً جداً على المقاربة الإسرائيلية للعلاقات الثنائية". كما أعلن أوباما أن "وقف المستوطنات والحرص على وجود دولة فلسطينية قابلة للحياة" سيخدم كلاً من المصلحة الإسرائيلية والأميركية على المدى الطويل. وخلال مؤتمر صحفي برام الله في مارس الماضي، لم يدعْ أمين عام الأمم المتحدة "بان كي مون"، من جانبه، شكّاً بخصوص الطابع غير الشرعي للاستيطان إذ قال: "إن العالم يندد بمخططات التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في القدس الشرقية. ودعونا نكون واضحين: إن كل الأنشطة الاستيطانية غير شرعية في أي مكان من الأراضي المحتلة، ويجب إيقافها". ولكن في اجتماع بالبيت الأبيض في وقت سابق من هذا الشهر بين نتنياهو وأوباما، كان موضوع المستوطنات غائباً بشكل لافت عن تصريحات نتنياهو وأوباما الذي أغدق المديح على رئيس الوزراء الإسرائيلي. غير أن وثيقتين نشرتا في وقت سابق من هذا الشهر سلطتا بقوة الضوء بقوة على الاستيطان وقدمتا معلومات غير عادية حوله. الوثيقة الأولى هي عبارة عن دراسة لصحيفة "نيويورك تايمز" أبرزت الدور الذي تلعبه أموال دافعي الضرائب الأميركيين في تمويل وصيانة المستوطنات نفسها التي تعتبرها السياسةُ الأميركية غيرَ شرعية؛ حيث بحثت الصحيفةُ السجلات العامة في الولايات المتحدة وإسرائيل، ووجدت أن 40 منظمة أميركية على الأقل قدمت خلال العقد الماضي 200 مليون دولار من التبرعات المعفاة من الضرائب من أجل مساعدة اليهود على العيش في الأراضي التي تحتلها إسرائيل - مما يعيق بشكل فعلي قيام دولة فلسطينية. ومن الأمور المثيرة للسخرية التي تمت الإشارة إليها في تحقيق "نيويورك تايمز" حقيقة أنه إذا كانت إسرائيل قد توقفت عن تقديم إعفاءات ضريبية للتبرعات الموجهة لدعم بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإن الحكومة الأميركية ما زالت تقوم بذلك. والأمر الثاني المثير للسخرية هو حقيقة أن بعض المنظمات التي تستفيد من إعفاءات ضريبية للتبرعات التي تدعم الاستيطان فعليّاً يقال إنها، أو لديها علاقات مع، منظمات إرهابية يهودية. وهذه الحقائق التي تم الكشف عنها دفعت بلوبي "جي. ستريت" الأميركي اليهودي الذي يقدم نفسه على أنه مؤيد لإسرائيل وللسلام، إلى دعوة وزارة الخزانة الأميركية لفتح تحقيق لمعرفة ما إن كانت المنظمات التي تموِّل الأنشطةَ الاستيطانية في الأراضي المحتلة، وتلك التي أشير إليها في تحقيق "نيويورك تايمز" باعتبارها على علاقة بمنظمات يهودية من اليمين المتطرف تُصنف في خانة المنظمات الإرهابية من قبل الولايات المتحدة، قد خرقت القانون. ومن جانبها، نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تحقيقاً بعنوان "كيف تساهم الولايات المتحدة في تمويل جنود الجيش الإسرائيلي المؤيدين للمستوطنين؟"، أفاد بأن منظمة تدعى "فريق إنقاذ البلد والأرض" تعرض مبلغ 1000 شيكل عن كل يوم يقضيه جندي إسرائيلي في السجن بسبب رفضه الامتثال لأوامر ترحيل المستوطنين وإخلاء المستوطنات. والجدير بالذكر هنا أن "فريق إنقاذ البلد والأرض" هو منظمة غير ربحية مسجلة تتلقى تبرعات من منظمة توجد في الولايات المتحدة معفاة من الضرائب. أما الوثيقة الثانية التي نُشرت في وقت سابق من هذا الشهر وتقدم معلومات مفصلة حول الاستيطان، فهي تقرير أعدته منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسليم" ويشير إلى أن هذه الأخيرة اعتمدت على بيانات إسرائيلية رسمية، وخرائط "الإدارة المدنية"، ووثائق الجنرال باروتش شبيجل، لإظهار أن قرابة نصف مليون إسرائيلي "يعيشون وراء الخط الأخضر: أكثر من 300 ألف في 121 مستوطنة وحوالي 100 مستوطنة عشوائية"، تسيطر على 42 في المئة... من الضفة الغربية، والبقية في 12 "حيّاً" في أراضٍ محتلة قامت بضمها بلدية القدس. كما يشير تقرير "بتسليم" إلى أن سياسة الاستيطان الإسرائيلية تقوم على مقاربة ذرائعية خبيثة تجاه القانون الدولي، والتشريعات المحلية، والأوامر العسكرية الإسرائيلية، من أجل سرقة الأرض من الفلسطينيين في الضفة الغربية بشكل ممنهج. ولتشجيع الإسرائيليين على الانتقال للمستوطنات، أعلنت إسرائيل معظم المستوطنات "منطقة أولوية وطنية أ"، ممكِّنةً بذلك المستوطنين من شراء شقق غير باهظة، إضافة إلى الاستفادة من دَين مدعوم من الدولة، وتعليم بالمجان، ونقل مدرسي بالمجان، ورواتب أعلى للمعلمين، وآلية كاملة للدعم ومنح لتشجيع الصناعة والزراعة. كما يشير تقرير "بتسليم" إلى أن المستوطنات تخرق القانون الإنساني الدولي، وأن تفسير إسرائيل للقانون غير مقبول من قبل المجتمع الدولي، ليخلص إلى أن الاستيطان يتسبب في الانتهاك المستمر لحقوق الإنسان الفلسطينية، ومن ذلك الحق في الملكية، والحق في المساواة وفي محاكمة تستوفي المعايير القانونية، والحق في حرية التنقل، والحق في تقرير المصير. والأكيد أنه لا يمكن أن تكون ثمة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن طالما أن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني مستمر بلا هوادة. وقد كان أوباما محقاً حين شدد على ضرورة أن "تحترم إسرائيل المطالب والحقوق الشرعية للفلسطينيين".