هل توقفت الشركات والمؤسسات الاستثمارية الأميركية عن تعيين الموظفين الجدد؟ وهل يتوقع لهذه الحالة أن تستمر لفترة طويلة من الوقت؟ الإجابة عن السؤالين، بكل بساطة، هي "نعم"! ولا تعود المشكلة إلى التراجع الذي حدث في سوق العمالة منذ الكساد العظيم فحسب، فقد طورت الاستثمارات الكبيرة من الوسائل ما يمكنها من جني الأرباح وزيادة استثماراتها دون التعويض عن العمالة التي تخلصت منها خلال العامين الماضيين. وبدون التعويض عن هذه العمالة تمكنت الشركات من زيادة استثماراتها ومبيعاتها على مستوى السوق المحلي على الأقل. فقبل الانهيار المالي الذي حدث في عام 2008 بقليل، كانت الأجور مرتفعة نوعاً ما. وكذلك كانت الأرباح والعائدات وإجمالي الناتج المحلي القومي مرتفعة هي أيضاً. ولم تتخلف عن الركب الاقتصادي إلا دُخول عامة الأميركيين، التي ظلت منخفضة. واليوم لا تزال الأجور منخفضة، بينما ارتفعت معدلات البطالة، في حين لم ترتفع مبيعات العائدات عما كانت عليه كثيراً. ولكن في المقابل ظلت الأرباح مرتفعة جداً! فبين الـ175 شركة المسجلة في مؤشر بورصة "ستاندرد آند بورس 500" التي نشرت تقارير أدائها في الربع السنوي الثاني، ورد في تقرير اقتصادي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الصادرة يوم الأحد الماضي، أن العائدات ارتفعت بنسبة 6.9 في المئة، بينما سجلت الأرباح ارتفاعاً هائلاً بلغت نسبته 43.3 في المئة. وبلغة الأرقام فإن الملاحظ أن الأرباح حققت ارتفاعاً فاق ذلك الذي حققته العائدات بحوالي 7 مرات... وهذا يدعو للذهول طبعاً. والسؤال الذي نطرحه هنا: كيف للشركات الأميركية أن تتحدى قانون الجاذبية الأرضية على هذا النحو؟ فبفضل قدرتها على التكيف مع الظروف الاقتصادية المالية الجائحة، تمكنت هذه الشركات من جني الأموال على رغم إحجام المستهلكين عن الشراء بسبب تراجع قوتهم الشرائية. ولعل التفسير المنطقي الوحيد لما حدث هو أن نسبة مبيعات الشركات هذه وإنتاجها في الأسواق الخارجية قد ارتفعت كثيراً خلال الفترة نفسها. فالملاحظ أن شركة "جنرال موتورز" واصلت نموّاً هائلاً في حجم مبيعاتها في الصين، حيث تبيع من السيارات هناك ما يفوق حجم مبيعاتها في السوق الأميركية. وهناك تستخدم الشركة نحو 32 ألف عامل في خطوط إنتاجها، وهو عدد يقل بحوالي 20 ألف عامل فحسب من جملة عمالها المستخدمين هنا داخل الولايات المتحدة الأميركية. والحقيقة أن نموذج شركة "جنرال موتورز" يطابق تماماً أحوال نموذج الاستثمار الأميركي فيما بعد الانهيار المالي. ويتسم هذا النموذج بفصل أعداد كبيرة من العاملين والموظفين، وارتفاع الإنتاج وانخفاض الأجور -بسبب ضعف الاتحادات النقابية والمهنية إلى حد ما- وانخفاض حجم المبيعات داخليّاً مع ارتفاع استخدام العمالة والمبيعات خارجيّاً. كما يمثل حجز السيولة سمة أخرى رئيسية من سمات النموذج الاستثماري المذكور. فقد كشف تقرير صادر عن البنك الاحتياطي الفيدرالي الشهر الماضي عن تقديرات بلغت فيها السيولة المحتجزة لدى الشركات رقماً قياسيّاً هو 1.8 تريليون دولار عبارة عن احتياطيات نقدية. وباعتباره جزءاً من الأصول المملوكة لهذه الشركات، فإنه يعد أعلى مستوى احتياطيات نقدية تحققه الشركات منذ عام 1964. فلماذا إذن الاستثمار في مصانع ومكاتب وعاملين جدد، لاسيما في السوق المحلية الداخلية؟ في أعقاب الصدمة التي أصابت الاستثمارات الأميركية في عام 2008، تريد الشركات أن تحتفظ بمزيد من الاحتياطيات النقدية تحت بساطاتها. ويطيب لها الجلوس المريح بالطبع كلما كبرت تلك البساطات بالأرباح المرتفعة تحتها. ولكن علينا أن نثير سؤالاً آخر لا يقل أهمية: هل يعتبر هذا النموذج مثاليّاً وقابلاً للاستدامة؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال، وخاصة أن في وسع موجة ركود جديدة أن تؤدي إلى زيادة أرباح الشركات هذه. ولكن عند النظر إلى هذا النموذج الاستثماري من زاوية العامل الأميركي، فإنه ليس أكثر من كونه كارثة، لا تقل عن موجة الركود الاقتصادي التي نشأ عنها. ذلك أنها تتضمن هذا النوع من البطالة الهيكلية طويلة المدى، التي لم تشهدها أميركا منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وبذلك فهي تحكم بالسجن المؤبد على جيل كامل منخفض الدخل، لا خيار له سوى المراوحة في انخفاض دخله. وتستفز مشاعرنا هذه الـ"أميركا" بواقعيتها القاسية المجردة. فقد ظلت نسبة 46 في المئة ممن سرِّحوا من وظائفهم بلا عمل لمدة تراوحت بين أربعة إلى ستة شهور، وهي أعلى نسبة منذ أن بدأ مكتب إحصاءات العمل قياس معدلات البطالة في بلادنا منذ عام 1947. فقبل عامين ماضيين، كانت نسبة لا تزيد عن 18 في المئة فحسب من المسرحين من وظائفهم بلا عمل لمدة زادت عن الستة شهور. وبالنتيجة فقد تعطلت ماكينة العمل في القطاع الخاص، مع العلم أن هذه الماكينة هي ما ظلت تفخر به أميركا منذ عام 1940. ولا مجال لإصلاح هذه الماكينة أو إعادتها للعمل مجدداً مع طغيان النموذج الاستثماري الأميركي الجديد، القادر على زيادة عائداته وأرباحه من دون العمال. وبالنتيجة، فليس مرجحاً أن يكون القطاع الخاص دافعاً محركاً للتعافي الاقتصادي الأميركي وإعادة اقتصادنا القومي لازدهاره السابق مجدداً. وفي الجانب الإداري، فليس ثمة معنى لخفض الضرائب المفروضة على الاستثمارات، بينما تجلس الشركات فوق محيطات من الاحتياطي النقدي. وفي المقابل، يبدو الخيار الأمثل هو اتباع سياسة الخفض الضريبي المستهدف، وتوفير الائتمانات الضريبية اللازمة للاستثمار الاستراتيجي واستخدام العمالة داخل السوق المحلية الأميركية. وقد وعدت إدارة أوباما بتوسيع الائتمانات الضريبية لمنتجي التكنولوجيا الخضراء في أسواقنا الداخلية، بينما يتوقع من أعضاء الكونجرس "الديمقراطيين" الكشف قريباً عن تشريع جديد ينص على منح حوافز للإنتاج والاستثمار المحليين. كما يتوقع أن يكون القطاع العام، وكذلك الاستثمار العام- الخاص، مصدراً آخر إضافيّاً للتوظيف والاستخدام. وفيما لو لم يبادر القطاع الخاص بملء فراغ العمالة الحالي، فلن يكون الحديث عن ازدهار الاقتصاد الأميركي سوى قصة من قصص الماضي وذكرى من ذكريات التاريخ. هارولد مايرسون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"