كان يمكن لحلقات شهادة الدكتور عدنان الباجه جي على العصر أكثر فائدة وقوة لو أن مقدم البرنامج لم يقاطع الضيف في كل جملة يقولها، ولو تركه يدلي بشهادته دون أن يحاول أن يفرض عليه ما يريد أن يشهد به. كان من الواضح أن مقدم البرنامج يريد أن يضع شهادته هو على العصر وليس شهادة الباجه جي، وذلك ربما من خلال ما قرأه وما كتبه وما شاهده وما سمعه عن العراق لكن عقلانية وهدوء الباجه جي حالت دون ذلك! وحرم مقدم البرنامج الجمهور من شهادات كثيرة كان يمكن الحصول عليها من الباجه جي. ربما لمقدم البرنامج موقف مسبق من ضيفه وربما يحبه وقد يكون صديقه ويستطيع أن يتكلم معه بالطريقة التي يريدها. لكن بالطريقة التي أدار فيها هذا الحوار، فإن المشاهدين شعروا بأن مقدم البرنامج استخدم الطريقة "العنيفة" في حواره مع الباجه جي، وكأنه محقق! طريقة الحوار سواء مع الباجه جي أو غيره ممن سبقوه بإدلاء شهاداتهم من ضيوف في هذا البرنامج تعطي انطباعاً وكأن هناك أموراً وكلاماً وشهادات يريد مقدم البرنامج من ضيوفه في الحلقات السابقة وكذلك في حلقات الباجه جي العشر الأخيرة أن يقولها ولكنه لم يقلها. لذا ربما شعر المقدم بأن جهده ضاع في كل تلك الحلقات دون ذكر ما يريده، وبالتالي لم يبق أمامه إلا أن يهاجم الضيف بكل الطرق! هناك رجال لهم مصداقيتهم وتاريخهم يكشف ذلك ويؤكده. والباجه جي أحد أولئك الرجال الذين رغم تاريخهم السياسي الطويل، فإنه حافظ على نظافة سجله السياسي ولم يسعَ إلى السلطة كما يسعى إليها البعض في العراق اليوم دون اكتراث بأوضاع البلاد ومستقبل الشعب... إنه رجل يكون موجوداً عندما يحتاجه وطنه، ويختفي عندما يكون هناك من يقوم بما يمكن أن يقوم به هو وأمثال هؤلاء يوجدون لكنهم لا يكونون كثيرين، لذا فإن البعض لا يستوعب لماذا هم يظهرون وأين ولماذا يختفون. وفي المقابل هناك أشخاص غير معروفين وبمجرد أن يظهروا لا يريدون أن يختفوا مرة أخرى، ويصرون على البقاء، ولو على حساب مصلحة وطنهم! لو لم يكن القادة السياسيون في العراق الجديد قادمين بأجندات جاهزة لوضعوا الباجه جي كأحد خياراتهم الرئيسية، فرجل مخضرم ومحترم كالباجه جي كان يمكن أن يساعد على الإسراع في إنهاء الاحتلال الأميركي والأزمة التي دخلت فيها العراق بعد الاحتلال. الباجه جي رجل سياسي في دولة تعاني الكثير من الجروح، وهناك من يحبونه ويؤمنون به، وهناك من لا يحبونه ولا يرون أنه أضاف شيئاً لبلده، وهذا أمر طبيعي في بلد أصبحت الطائفية والعشائرية والتحزبات هي السائدة. لكن ذلك لا يجب أن يؤثر على برنامج مهم يفترض أنه يحاول أن يكشف صوراً جديدة عن فترة عصيبة ومهمة، ويكشف حقائق لا يعرفها إلا ذاك الشاهد على العصر. ويقول ويسرد شهادته وإنْ لم تكن تعجب من يختلفون معه من السياسيين أو مقدم البرنامج. كإعلاميين نطالب دائماً بأن يكون الحوار صريحاً، وأن يكون الكلام واضحاً ودقيقاً، وأن تكون هناك إجابة لكل سؤال، ويجب توضيح الكلام المبهم في أي عمل إعلامي، ونتفق على كل ذلك فهذه أولويات العمل الصحفي. لكن كل ذلك يجب أن يكون في إطار يراعي الضيف والمشاهد. وما يحدث على بعض شاشاتنا العربية هذه الأيام، يجعلنا نتساءل هل هي أزمة إعلام عربي أم أزمة إعلاميين أم أنها أزمة مثقفين؟ فأصول الحوار معروفه ويفترض أن يلتزم بها المحاوِر والمحاوَر على حد سواء. والطريقة التي استخدمها مقدم البرنامج في حواره مع الباجه جي بدت كأنه يحقق مع متهم، وليس يحاور شاهداً على العصر! وهذا ما لم يستطع أن يتقبله المشاهد. لكن يبدو أن النظرية التي تقول إنه بعد فترة من الزمن، وبعد أن يقرأ المثقف العربي كثيرا ويعمل كثيراً ويشاهد كثيراً يعتقد أنه يعرف كل شيء، وأن ما يعرفه هي الحقيقة التي لا شك فيها... وبعد ذلك يبدأ في المرحلة الأخيرة بفرض رأيه على الجميع. وهذه ليست بالحالة الجديدة، فهي حدثت في الماضي وتحدث بين المثقفين في الوطن العربي، الذي تبدو فيه الحقيقة غير معروفة وضائعة في أغلب الحالات. أخيراً نؤكد أن من تابع تلك الحلقات كان يريد أن يسمع شهادة الباجه جي على العصر وليس شهادة مقدم البرنامج. وكان المتابع يريد أن يسمع حواراً وليس جلسة محاسبة! أما ما يبحث عنه المشاهد في هذا البرنامج وغيره، فهو عمل إعلامي ، وإلا سيكون خير له أن يتابع المسلسلات التركية التي صار يفضلها البعض على هذه البرامج .