لقد أصبحتُ معلمة للغة الانجليزية بمحض الصدفة. فبعد تخرجي من الجامعة ببضعة أشهر، ونظراً للشعور الرهيب بالوحدة والضجر، الذي كان يتملكني في مدينة جديدة تبعد بحوالي 3 آلاف ميل عن عائلتي وأصدقائي، قررتُ التطوع لتعليم الأشخاص الأميين القراءة. كانت محاولة لفعل شيء ما، والذهاب إلى مكان ما غير شقتي القديمة الباردة بعد العمل نهاراً في مكتب لا نوافذ له في مدينة "أبردين"، بولاية واشنطن، وهي منطقة مصانع يلفها الضباب يبلغ عدد سكانها 16 ألف نسمة واشتهرت بكونها مدينة مغني فريق "نيرفانا" الموسيقي "كرت كوبن". لسوء حظي رفضت منسقةُ المتطوعين في كلية "جريز هاربر" عرضي، ولكنها اقترحت عليّ خيارا آخر: "ماذا عن دروس الإنجليزية لغير الناطقين بها؟ إنها مهمة لكن القليلين فقط يرغبون في تعليم المهاجرين". حتى ذلك الوقت، كان المهاجرون الوحيدون الذين أعرفهم جيداً هم الطلبة الذين درسوا معي في الكلية، والذين أتوا إلى البلاد بتأشيرات دراسية. انتابتني الحيرة بشأن فكرة تدريس أشخاص ربما يقيمون في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني. ولكن نظراً لعدم وجود شيء أقوم به في المساء، وافقت على أن أجرب الأمر، وسرعان ما اكتشفت أن ثمة الكثير الذي أشترك فيه مع طلبتي الجدد، ذلك أنهم كانوا أيضاً جددا في "أبردين"، وجددا في واشنطن الولاية، ومازالوا يحاولون اكتشاف طرق لاتقاء المطر في واحد من أغزر الأماكن أمطاراً في الولايات المتحدة. يزاول مهاجرو "أبردين" أعمالاً شاقة، حيث يقطفون ثمار نبتة "الصلال" في الغابة المطيرة، ويبيعون النباتات المتسلقة (50 دولارا مقابل كل يوم عمل) للتجار، الذين يرسلونها إلى محلات بيع الزهور عبر البلاد. ويضربون السلطعونات بالمطارق لفتحها ونزع اللحم عن القشرة، أو يفتحون المحار، أو يقطعون السمك إلى شرائح، في حين يعمل بعضهم على متن سفن صيد تمخر عباب المحيط، سفن بأسماء من قبيل "تريشا راي" و"كريستل ماري". عندما وصلتُ إلى "أبردين" في 2002، كان آلاف المهاجرين ينامون في شقق مكتظة ومقطورات قديمة عبر منطقة "جريز هاربر". وكانت ثمة توترات، ذلك أن أطفال المهاجرين كانوا يملؤون المدارس المحلية؛ وآباءهم لم يكونوا يفهمون الرسائل التي تصلهم بالانجليزية، فيتغيبون عن اجتماعات المعلمين وأولياء الأمور واجتماعات بداية السنة الدراسية الجديدة. وكان المهاجرون، ومعظمهم من الكاثوليك، يريدون أماكن للعبادة، ولكن الكنائس كانت مترددة في تقديم قداس بالإنجليزية؛ كما كان يُفترض أن أولئك المهاجرين لن يتبرعوا بالكثير للكنيسة. وعلى صفحات الرأي في صحيفة "ديلي وورلد" المحلية، كان السكان يشتكون بشدة من الوافدين الجدد لأنهم لا يتعلمون اللغة الانجليزية؛ ولكنني سرعان ما اكتشفتُ أنهم كانوا جادين ويبذلون ما في وسعهم من أجل التعلم. فرغم التعب والإنهاك، إلا أن الرجال والنساء كانوا حريصين على القدوم إلى المدرسة في "أبردين" كل مساء من أجل التعلم. وبينما كانوا يتعلمون عبارات التحية ومفردات الأكل واللباس، كنت أجلسُ مع الطلبة الجدد، وأحاول مساعدتهم على نطق الحروف بلغة وطنهم الجديد. وبإسبانيتي الضعيفة، كنتُ أقول لهم ما تحتفظ به ذاكرتي من كلمات: "أوتوبوس، تيندرا بارا كوميدا، لا إيسكويلا بارا توس نينيوس". وكانوا أحيانا يجلبون معهم بعض الوثائق – طلب وظيفة، فواتير، التقارير الدورية لمستوى أبنائهم في المدرسة – وكنت أحاول شرحها لهم. وقمنا برسم خرائط لأجنحة مراكز التسوق، ونظمنا رحلة ميدانية إليها، كما درسنا مسار الحافلات والعملة الأميركية. لقد كانوا يسلّونني بقصصهم عن المكسيك، وكانوا يرسلون لي رسائل من بريدهم الإلكتروني الجديد، وهو ما جعلني أشعر بأنني أقل وحدة وأكثر تجذراً في المكان. وكنتُ عادة أعود إلى البيت الذي يبعد بنصف ميل سيراً على الأقدام؛ ولكن في الليالي الممطرة، كانت ثمة حافلة صغيرة مهترئة ممتلئة بالرجال المكسيكيين تحرص على التوقف على الطريق لإيصالي إلى البيت، حيث كانوا يفتحون لي الباب الخلفي وأصعد ممتنةً. بعد أن تطوعت في المدرسة لسنتين، وصلتُ ذات مساء لأجد قاعة الدرس شبه فارغة؛ ذلك أن ضباطاً من مصلحة الهجرة كانوا قد داهموا مصنعاً لتعليب السمك في ذاك اليوم، حيث أغلقوا الأبواب، ونصبوا كمائن لعدد من الأشخاص الذين مازالت على أيديهم وملابسهم آثار لأحشاء السمك. بعضهم تمكن من الفرار، ولا أعرف كيف؛ في حين تم اقتياد الآخرين على متن شاحنات. وفي قاعة الدرس ذلك اليوم سألني أحد الطلبة، وهو رجل ينتعل حذاءين من النوع الذي يستعمله رعاة البقر وسترة ممزقة، وكنت أعلم أن لديه أطفالًا: "كيف نعرف أنهم لن يأتوا إلى هنا؟". غير أنه لم تكن لديّ كلمات لأجيب بها. لم أستطع أن أعده بأن مدرستنا لن تتعرض للمداهمة. فقد كنت أعتقد أنها مكان آمن، ولكن كيف لي أن أعرف حقا؟ افترضت أنه لن يعود إلى القسم، ولكنني كنت أعلم أنه سيكون في مكان ما غير بعيد، يقوم بحمل كيس من نبات الصلال في الغابة المطرية أو يرمي الشباك في المحيط البارد مقابل أجر يتعفف عنه حتى المراهقون. والواقع أنه على الرغم من أن المداهمات التي تقوم بها مصالح الهجرة والقوانين مثل قانون أريزونا للهجرة تدفع المهاجرين للاختباء والتواري عن الأنظار، بعيدا عن المستشفيات والبنوك ودروس اللغة الانجليزية، إلا أنها لا ترغمهم على الخروج من البلد، لأنه طالما أن ثمة أمل – وظائف، تعليم، مستقبل للأطفال - فإن المهاجرين غير القانونيين، مثل طلبتي، سيمكثون في البلد. كايتلن مانري كاتبة أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي" إنترناشيونال