ليس عصيّاً على الفهم ذلك البرود الذي طبع اللقاء الذي تم بين كاميرون وأوباما خلال الأسبوع الحالي. فقد كان هذا الأخير يواجه أسوأ كابوس سياسي يعترض رئاسته. ولو كتب النجاح لخطط كاميرون الاقتصادية والسياسية فإن من شأن ذلك أن ينقذ جزيرته العجوز من المصير المالي الذي واجهته اليونان. وفوق ذلك فسيقدم كاميرون، السياسي "المحافظ"، نموذجاً بريطانيّاً لإمكانية فوز "الجمهوريين" بانتخابات عام 2012 الرئاسية. ذلك أن كاميرون يمثل -في شدة حماسه للتقشف المالي- نموذجاً لجيل جديد من الحكام "الجمهوريين" الذين يبدأ فن قيادة الحكم عندهم بإتقان مهارات المحاسبة. ولعل مما يستحق التذكير، في هذا المقام، أن معدل عجز الموازنة البريطانية خلال العام الماضي، كان أكبر من العجز المالي للخزانة اليونانية. وعليه فقد جاءت ميزانية الطوارئ التي أعلنت عنها حكومة كاميرون الجديدة في يوم 22 من يونيو الماضي، بمثابة أكبر انخفاض في حجم الإنفاق العام البريطاني منذ أيام الحرب العالمية الثانية. وهو الخفض الأطول استدامة في الوقت نفسه. ولم يستثن من ذلك الخفض سوى الأموال المخصصة لبرامج الرعاية الصحية والعون الخارجي. وفيما عدا ذلك، فستشهد جميع الدوائر والوزارات الحكومية الأخرى، انخفاضاً في ميزانياتها المخصصة تصل نسبته إلى 25 في المئة، خلال السنوات الخمس المقبلة. وبينما جاءت استجابة المستثمرين في السندات المالية واختصاصيي تسعير الائتمانات إيجابية ومؤيدة لميزانية كاميرون التقشفية، فإن من المتوقع أن تواجه هذه الميزانية وإجراءاتها بسلسلة من الإضرابات والمظاهرات الشعبية حين يبدأ سريانها قريباً. ولابد من القول إذن إن هذه الاستراتيجية المغامرة التي انتهجها كاميرون مثيرة في دولة لا تمثل فيها "الاشتراكية" مجرد صرعة سياسية، بل هي التزام راسخ وأيديولوجية موجِّهة لحزب بريطاني رئيسي منافس. ولكن مما يحسب لاستراتيجية كاميرون هذه، أنها تحمل الكثير من المسؤولية الاقتصادية. وما أسهل أن تنتهي كل ميزانية بالنص على فرض ضريبة هائلة على المواطنين. ولكن ما أكثر ضرر هذه الضرائب على النمو الاقتصادي القومي في نهاية الأمر. ولعل إدراك هذه الحقيقة هو الذي دفع كاميرون إلى اقتراح أن يقابل ارتفاع كل جنيه ضريبي بخفض في الإنفاق العام بمعدل أربعة جنيهات. وقد توصلت دراسة اقتصادية أجريت حديثاً لـ44 تعديلاً في موازنات الدول المتقدمة إلى أن معدل زيادة ضريبية بنسبة1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، قد نتج عنها خفض النمو الاقتصادي السنوي للدول بنسبة 0.9 في المئة، منذ عام 1975. وعلى عكس ذلك، توصلت الدراسة نفسها إلى أن خفض الإنفاق الحكومي العام بنسبة 1 في المئة سنويّاً، أدى إلى زيادة النمو الاقتصادي القومي بنسبة 0.6 في المئة. وفيما لو نجح كاميرون في تطبيق نهجه هذا -إحداث خفض هائل في العجز المالي الحكومي، دون التأثير سلباً على النمو الاقتصادي- فإن من البديهي أن يقدم ذلك النجاح نموذجاً قويّاً يمكن أن تحذوه أميركا وغيرها من الدول. ولكن مكمن المعضلة هو أن نهج كاميرون هذا يقدم درسين آخرين ربما لا يبدي "الجمهوريون" الأميركيون حماساً للاعتراف بهما. ويتلخص أولهما في أن النجاح الذي حققته سياسات التقشف المالي التي تبناها كاميرون، قد تم في سياق حكومة ائتلاف جمعت بين "المحافظين" وحزب "الديمقراطيين الأحرار". وقد قلل اعتماد حكومة كاميرون على الوسطية السياسية من حاجتها للحصول على دعم أي من الحزبين المتطرفين يميناً ويساراً. وكانت نتيجة ذلك إبرام هدنة بين الحزبين المؤتلفين بشأن المسائل السياسية الخلافية مثل الهجرة واندماج بريطانيا في كيان الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع لتحالف كاميرون هذا أن يحافظ على قوته في أعلى مستويات القيادة السياسية. وبالمقارنة، فإن تشكيل حكومة ائتلافية رسمية ليس خياراً مطروحاً في السياسات الأميركية، بسبب افتقار أميركا إلى حزب سياسي ثالث متطلع للوصول إلى مراكز السلطة واتخاذ القرار. والأهم من ذلك، أن الخطر السياسي الناشئ عن إحداث خفض كبير في الإنفاق الحكومي العام، يتطلب تحميل حزب سياسي واحد المسؤولية عنه. وهذا يعني أن أميركا مطالبة بتشكيل تحالف من القيادات المحافظة ماليّاً من كلا الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، حتى يتمكن "تحالف الشركاء" من التعاون القوي الفعال فيما بينه، ويساعد على تحييد تأثيرات الاستقطاب والتنافر الحزبيين. ولكن كل هذا يبدو صعب التحقيق في ظل السياسات الأميركية السائدة، القائمة على الاستقطاب الحزبي. أما الدرس الثاني فيتلخص في وضوح الرسالة التي بعث بها كاميرون: ليس التقشف وحده سياسة كافية كي يتبناها حزب سياسي يتسم ببعد النظر. ويصف كاميرون خفض عجز الميزانية العامة بأنه "واجب" أساسي لحكومته. كما يؤكد عشقه لـ"المجتمع الكبير" في إشارة واضحة منه لأجندته الاجتماعية. وقد صحب كاميرون ميزانية الطوارئ التي تبنتها حكومته بسلسلة من التدابير الهادفة إلى تشجيع العمل التطوعي وتمكين المجتمعات المحلية وخلق المدارس النموذجية وإصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، فضلاً عن تمويل صندوق المؤسسات الخيرية الخاصة. وهكذا تشير رؤية كاميرون إلى إنشاء نمط للحكم الراديكالي، ليس على مستوى البلديات فحسب، وإنما كي يسود بين المجتمعات المحلية والأفراد أيضاً. هذا وقد وجه قياديون من حزب "العمال" انتقادات إلى كاميرون متهمينه بمحاولة إضفاء نبل زائف على أجندته التقشفية. ولكن الحقيقة أن كاميرون ظل ينادي برؤيته لـ"المجتمع الكبير" هذه قبل وقت سابق بكثير على الأزمة المالية الأخيرة. ومهما يكن من أمر الخلاف البريطاني على هذه الرؤية، فإن من حق أوباما أن يخشى بروز نمط "جمهوري" جديد من الطراز الكاميروني! مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"