الكثير من أبناء العرب اليوم، بعد اعتماد التعليم على اللغة الأجنبية أصبحوا لا يقرؤون إلا الكتب الأجنبية، ولا يدرسون إلا ما كتبه علماء الغرب بثقافتهم ولغاتهم، وبعضهم أصبح منصرفاً عن لغة تراثه يقرأ ويكتب ويدرس بحماسة بالغة الكتب والصحف الأجنبية، ويدفع الكثير منهم الأموال للحصول على تلك الكتب وضمها إلى مكتبته التي أصبحت تخلو من الكتب العربية، وحديثهم عن ذلك في كل مكان على أنه نوع من الرقي والتقدم والفخر والاعتزاز. وإذا ما حدثتهم عن اللغة العربية أو الثقافة والكتب العربية، أجابوا بلا اكتراث. لقد نسي بعضهم لغتهم وثقافتهم، بينما نجد كثيرين منهم يتحدثون بطلاقة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.. الخ، ويحسنون الكتابة بها ويعرفون جيداً جذور ثقافتها ورموزها وتاريخها. إن التجارب التاريخية العربية العديدة التي من خلالها فضل بعضنا لغات أجنبية على لغتنا في التعليم لأسباب تاريخية على أمل النهوض لم تصل بالضرورة بنا إلى مقومات النهضة الحقيقية. إن السر في النهوض والتقدم حسب غالبية نظريات التنمية والأمم المتحدة، وتجارب الدول، التي تحقق لها التقدم يكمن في التعليم باللغة الأم. وهذا أيضاً يصدق على مدى قدرة هذه الأمة على النهوض بلغتها ودعمها بقوة وجعلها الأساس في نقل معارف وعلوم وتجارب وخبرات الأمم والشعوب الأخرى لإثراء العقل العربي والعلم والثقافة العربية في مختلف مجالات العلوم. وجوهر اللغة يكمن في إيجاد حركة ترجمة قوية وجادة وواسعة لأنها المفتاح الحقيقي الذي يمكن الأمة من أن تنطلق إلى طريق التقدم وتدخل من خلالها عصر النهضة العلمية والفكرية والحضارية. والتاريخ يؤكد صدقية هذه الحقيقة حيث إن الحضارة الإسلامية لم تزدهر إلا بعد أن أخذت الخلافة العباسية موضوع الترجمة كأساس للنهضة والازدهار، وأصبح "بيت الحكمة" في بغداد منطلقاً لهذه النهضة العلمية والفكرية الكبيرة، حيث ترجمت آلاف المخطوطات والكتب من مختلف اللغات اليونانية والسريانية والهندية والفارسية والصينية.. الخ، إلى العربية. ثم أصبح الأزهر ودار العلم في القاهرة في مقام "بيت الحكمة"، وكذلك الأندلس، حيث أصبحت قرطبة التي وصفها المؤرخون العرب بأنها عروس الأندلس، ووصفتها الراهبة هروسوذ بأنها "زينة العالم" قِبلة العلم والبحث، وكانت الاختراعات والاكتشافات والابتكارات المذهلة التي كانت تدهش العالم في تلك الحقبة تنسب جميعها إلى العلماء العرب والمسلمين. ولولا الترجمة لما وصلت أوروبا إلى ما هي عليه الآن، حيث أخذت وفود الطلبة الأوروبيين تتجه إلى الأندلس لأخذ العلم من مصادره العربية وتنقله إلى اللاتينية، وكان لهذه الترجمات أثرها العظيم في تطوير العلوم الأوروبية، ونتيجة للتدفق الهائل للعلوم العربية التي ترجمت إلى اللاتينية تطورت العلوم الأوروبية وتكونت الجامعات، كجامعات باريس وأكسفورد، وأخذ الغرب ينهل العلوم العربية لمدة ثمانية قرون من القرن التاسع الميلادي إلى القرن السابع عشر، حيث أيقظت هذه العلوم الفكر الأوروبي من سباته قروناً طويلة. ولو لم يسقط المسلمون في مستنقع التأخر نتيجة الغزوات المتتالية التي أصابت العالم الإسلامي من أيام السلاجقة والمغول والدمار الذي أصاب مراكز البحث والابتكار ونهب آلاف الكتب والمخطوطات من المكتبات والتمزق والاضطرابات الداخلية وتزايد الأزمات الاقتصادية والتصحر الذي أصاب مساحات واسعة وتوقف باب الاجتهاد والترجمة وروح الاكتشاف والابتكار والاختراع، وما فعله الاستعمار الأوروبي الحديث في العالم الإسلامي لأصبح المسلمون اليوم هم من يقود عصر النهضة الحالي. إن الأمة العربية والإسلامية قادرة على العودة من جديد إلى عصر الازدهار وعصر النهضة، إذا أعادت للغة العربية، لغة القرآن الكريم، قوتها ومكانتها العلمية وفضلتها في التعليم على كل اللغات، وشجعت روح الاكتشاف والاختراع لأن مسألة التعريب والترجمة ينبغي اعتبارها الأساس في سياسة التعليم في الوطن العربي.