في لقاء صحفي أجري معه في صحيفة "كوريري ديلا سيرا" أشار أوباما إلى أن تردد الاتحاد الأوروبي المستمر إزاء قبول عضوية تركيا ضمن دوله، هو الذي دفع القيادة التركية إلى البحث عن حلفاء جدد لها، وأن تتجه إلى بناء علاقات الجوار الإقليمي الأقرب لها، لاسيما مع الدول المسلمة الشرق أوسطية. وقد ترددت أصداء هذه التعليقات أيضاً في حديث وزير الدفاع الأميركي "جيتس"، الذي أنحى باللائمة في الشهر الماضي على أوروبا بشأن انصراف أنقرة عن الغرب. وهنالك من يرى أن كلا القائدين الأميركيين مخطئان، سواء في تحليلهما لتغيرات السلوك التركي، أم في الوصفات السياسية التي تضمنتها تعليقاتهما. وبينما يظل من الأهمية بمكان لإدارة أوباما الحالية تعميق فهمها لتركيا والانخراط معها في علاقات دبلوماسية قوية، فإن من شأن إلقاء اللوم على أوروبا بخصوص التحول التركي، أن يبسط المسألة كثيراً، وربما يؤدي كذلك إلى عواقب غير مقصودة. صحيح أن ساركوزي، وإلى حد ما ميركل، قد صبا ماءً بارداً على طموحات تركيا المتعلقة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويعود ذلك الرفض جزئيّاً، بحسب مراقبين أوروبيين، إلى فشل أنقرة في إيجاد حل للأزمة القبرصية. غير أنه ليس متوقعاً لتركيا أن تحقق طموحها هذا قبل عشرين عاماً على الأقل، وتحت كل الأحوال. كما أن مجرد رفض الاتحاد الأوروبي لطلب تركيا لا يكفي لأن يكون مبرراً وحيداً لتمردها على أوروبا وهجرتها شرقاً. والحقيقة أن حكومة أردوجان، و"حزب العدالة والتنمية" الحاكم، كانت ستتخذ هذا القرار حتى وإن اقترب موعد انضمام أنقرة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. ذلك أن تزايد توجهات أنقرة نحو حكومات دول الجوار، يعود منشؤه إلى حد ما، إلى تعاظم شعور تركيا بأهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه في المسرح الدولي. ويعتقد القادة الأتراك أن بلادهم يجب أن تكون في مصاف القوى الدولية المتقدمة. كما يعتقدون أن من الواجب استغلال الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به بلادهم، فضلاً عن قدراتها الاقتصادية، وعلاقاتها التاريخية والثقافية الخاصة مع العالم الإسلامي، باعتبارها موارد مهمة يجب على حكومة أنقرة استثمارها في بلورة سياسات خارجية نشطة وقادرة على دعم الدور الدولي والإقليمي الذي يمكن أن تلعبه تركيا. أما الدافع الثاني لهذا التوجه التركي شرقاً فيتصل بمصالح أنقرة التجارية. فقد أدت قوة الصادرات التركية، وانفتاح شهية البلاد للاستثمار الخارجي، إلى تعزيز نمو اقتصادها الذي يحتل المرتبة السادسة عشرة عالميّاً. كما اعترف أوباما نفسه -في اللقاء الصحفي المشار إليه آنفاً- بأن الفوائد التجارية كانت ضمن العوامل الرئيسية التي دفعت أنقرة إلى الوقوف بجانب طهران ضد الولايات المتحدة، في اجتماع مجلس الأمن الدولي الذي أقر فرض العقوبات الإضافية على طهران. هذا زيادة على أن تركيا لا تكف عن البحث عن أسواق جديدة لمنتجاتها وصادراتها، في حين ساعدت سياساتها الشرق أوسطية على خلق فرص إقليمية جديدة لها، فضلاً عن تعزيز العلاقات القائمة أصلاً. وفيما يتصل بطموحات تركيا الأوروبية، لعل من الواجب القول إن أنقرة تواجه معضلتين رئيسيتين لا يتوقع لهما أن تحلا في أي وقت في المستقبل المنظور. أولاهما: المسألة الكردية. ومن المعروف أن تركيا شديدة الانقسام على نفسها بشأن أقليتها الكردية، ولم تلح بعد في الأفق أية نهاية قريبة لتمرد "حزب العمال الكردستاني" عليها بسبب هذه المسألة، ولاسيما أن عمر هذا التمرد يعود إلى 26 عاماً. هذا مع أن "حزب العدالة والتنمية" الحاكم كان قد أحدث بعض الإصلاحات السياسية في علاقة أنقرة بالأقلية الكردية. وقد لا يكون هنالك حل عسكري بحت للمسألة الكردية، إذ أن حلها يتطلب اتخاذ سياسات جديدة تفتح الطريق أمام المزيد من الحريات الثقافية. أما المعضلة الثانية فيمكن تلخيصها على هذا النحو: فعلى رغم أن تركيا تعتبر دولة قانون، إلا أن منتقديها يرون أنها لا تطبق سيادة القانون عمليّاً. ذلك أن دستورها الذي تم تشريعه في عام 1982 من قبل الطغمة العسكرية الحاكمة حينذاك، قد صمم خصيصاً لحماية الدولة من مواطنيها وليس العكس، كما يفترض. وعليه يرى هؤلاء المنتقدون أن تطبيق أنقرة للقانون يكون أحياناً أمراً اعتباطيّاً عشوائيّاً، ما قد يفتح المجال واسعاً للحد من الحريات العامة. ولم تتغير هذه الحقيقة كثيراً في ظل حكومة "حزب العدالة والتنمية" الحالية، لأنها سابقة عليها. ويتوقع لهاتين المعضلتين التركيتين أن تستمرا لعدد من السنين القادمة، إن لم تكن عقوداً قبل أن تتمكن أنقرة من حلهما. وعليه يجب القول بعدم عدالة إلقاء اللائمة في توجه تركيا شرقاً على الأوروبيين، إضافة إلى أن تحميل أوروبا عبء هذه المسؤولية لن ينتج عنه سوى إقصاء الأوروبيين. وقد لا يؤدي خطاب واشنطن السائد اليوم بشأن هذا التحول التركي، إلا إلى رفع عبء الإصلاح عن عاتق القيادة السياسية التركية نفسها. إضافة إلى عدم جدواه في تحفيز شهية التغلب على كل المسائل التي تعيق مساعي انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. ومن الأفضل أن تسلط السياسات الخارجية الأميركية جهودها على دفع تركيا نحو الإصلاح. فكلما حثت أنقرة السير في طريق الإصلاح، كلما دنا موعد انضمامها إلى البيت الأوروبي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هنري باركي زميل زائر بمؤسسة "كارنيجي" وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة "ليهاي" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. تي. سي. إنترناشيونال"