في مقال للمفكر الراحل محمد عابد الجابري، شرح كيف أن كلمة دولة بمعناها الحديث ليست في تراثنا اللغوي ولا السياسي، ولا أثر لها في القواميس العربية القديمة، وجاءت في مختار الصحاح بمعنى "الغلبة"، ودولة بني أمية ودولة بني العباس والدولة الحمدانية والدولة الفاطمية وغيرها، لم يكن يشار إليها في تراثنا اللغوي والسياسي بأنها دول، بل خلافات أو ولايات فحسب: خلافة بين أمية وبني العباس وهكذا، وولاية الحمدانيين والفاطميين وغيرها. ويمضي الجابري بأن لا وجود للدولة ولا مفهوم للمواطنة، لكن كانت هناك الأمة، وهي مفهوم مرتبط في الغالب بأتباع الدين الإسلامي. وقد وردت كلمة دولة في القرآن الكريم في سورة آل عمران "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، وشرحها أن الزمان يدور بدورته من قوم إلى آخرين. إذن هي وردت كفعل ولم ترد كاسم بمعنى الدولة. وفي رثائه لسقوط الأندلس قال أبو بقاء صالح بن شريف الرندي: "هي الأمور كما شاهدتُها دولٌ***من سرّه زمنٌ ساءته أزمان أي أن "الدنيا دوّاره" كما نقول باللهجة العامة، حيث تستخدم كلمة دَوْل ودوْر بنفس المعنى، والعلاقة الصوتية بين صوت الراء واللام معروفة، وفي لغة الأطفال تستخدم اللام في كلمة "سيّارة" بدلا من الراء: سيّالة. وفي لهجة البعض في الخليج تستخدم كلمة "دول" بمعنى دور، فيقال "دول الضيف عند فلان"، أي أن الضيف هذه المرة في ضيافة فلان. والدولة بمفهومها السياسي الحديث هي كيان سياسي محدد المعالم الجغرافية والحدود ولها في الغالب علم ونشيد وطني والأهم أنها تتطلب وجود حكومة، والحكومة كلمة لها مدلولات متعددة، فمن مدلولاتها النظام والقانون والأمن والقيادة. والدولة بلا حكومة هي دولة فاشلة- ترجمة ل failed state، والصومال نموذج للدولة الفاشلة التي لا حكومة لها، أو بالأحرى لها حكومات متناحرة وتفتقد الأمن والنظام. والحكومة مشتقة من "حَكَم"، ومنها الحُكم، وهو مرتبط بالحكمة، والتي بدورها مرتبطة بالرُشد، فالراشد غير الجاهل، والحكم العادل السليم الحر المستقر الديمقراطي المراعي لحقوق الإنسان والذي يسوده القانون المطبق على الجميع ويتم في "تداول السلطة" يسمى في عالم اليوم "حكما رشيدا". وترتبط الحكمة بالتحكيم، المرتبط كذلك بالضمير، فيقال: "حكّم ضميرك"، وتردد في حكايات التراث أن أبا الحكم اسم "الضب" في القصص على لسان الحيوان، وقيل المثل فيه حين طلبت الأرنب أن يحكم بينها وبين الثعلب فحكم بينهما وهو في جحره خوفا من الثعلب، فقيل "في بيته يؤتى الحكم". إذن لا وجود للدولة في تراثنا اللغوي بمفهومه الحديث، ولعل البعض في العراق يريد المحافظة على هذا التراث، فمنذ انتخابات مارس الماضي والعراق بلا حكومة، أو بالأحرى بها حكومة لا تريد أن تتزحزح بناء على نتائج الانتخابات، واستمرار الحال بالمراوحة قد يقود إلى فوضى مشابهة للصومال، وخاصة أن شمال العراق به دولة غير معلنة، وإن كانت قائمة بالمضمون: لها علمها ونشيدها الوطني وحكومتها وبرلمانها وتهريبها. وفي لبنان، هناك دولة داخل الدولة اللبنانية نفسها، فحزب الله مشارك في الحكومة، ولكنه يتصرف كحكومة أخرى أقوى من الحكومة المعلنة والمنتخبة، فيعلن الحرب ويوقفها بمعزل عن رأي الحكومة الرسمية. وفي غالبية دولنا العربية تغيب العدالة، وتنتفي سيادة القانون، وتندر الحكومات الرشيدة، وتوجد دول كثيرة على الخريطة فقط، ولا تتمتع بقيم ومميزات الدولة الحديثة ولا بالحكم الرشيد، وهي بذلك تعكس تراثا لغويا لا وجود للدولة فيه، أي أن بعض دولنا غير معترف بها حتى "لغويا"، يعني دول غير موجودة ولو بالكلام!