كي نفهم (وعند البعض: كي نتفهم) سياسة الرئيس الأميركي في العالم، وفي منطقتنا، وبالذات قمته الأخيرة مع نتنياهو... علينا أن نفهم العقلية السياسية البراغماتية الأميركية التي تنظر إلى العالم من خلال مركزية الذات الأميركية، والتي تضع المصلحة الأميركية فوق كل المصالح، مع اعتماد أسلوب المساومة في حل النزاعات وخاصة منها تلك النزاعات غير القابلة للحلول الجذرية. ويتجلى هذا الأسلوب من خلال الطروحات الأميركية في المفاوضات غير المباشرة الفلسطينية الإسرائيلية ومسألة "الاستيطان" (الاستعمار)، حيث تبدو تلك السياسة- في نظر غير الراضين عن طبيعتها "العملية"- وكأنها تحلق فوق الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، الأمر الذي يعكس المفاهيم السياسية الأميركية القائمة على المساومة، ونهج الإقناع وربما الضغط غير المباشر بدلا من الضغط المباشر، وذلك كله في ظل موقفها، غير المتصادم مع قوى اللوبي الصهيوني القوي، الأمر الذي خلق حالة من "الدعم التاريخي" لإسرائيل. لذا، فالسياسة الأميركية، المحكومة بعناصر الضغط الداخلية، والتي عرف الصهاينة واليهود كيف يستغلونها في آلية التعامل مع قضايا المنطقة... تتبع آلية تجزئة القضايا وتعليق الحلول الشاملة والجذرية واعتماد "سياسة التسليف والمساومة"، باعتبارها طريقة لإدارة الأزمة بانتظار اللحظة التاريخية المناسبة لحل الصراع. صناع القرار الأميركيون يؤمنون -في معظم الحالات- بكون المقاربة البراغماتية هي المقاربة الأفضل لخدمة مصالح الولايات المتحدة. وكلنا نتذكر عملية الخروج على هذه المقاربة من خلال السياسة التي أعلنتها إدارة الرئيس السابق (بوش) على أساس "الفوضى البناءة" أو "الخلاقة"، حتى ولو أدى ذلك إلى سقوط أنظمة في المنطقة تعاونت معها لسنوات طويلة، ذلك أن المصلحة الأميركية هي التي تحدد طبيعة سقف العلاقات، كما فضلت الإدارة الأميركية في "معاهدة حظر الانتشار النووي"، ضمان تركيز الوثيقة الختامية في مؤتمر مراجعة "معاهدة حظر الانتشار النووي" على المخالفين الفعليين لالتزامات المعاهدة (إيران وسوريا وكوريا الشمالية)، بدلا من تركيزها على دولة غير عضو في المعاهدة (إسرائيل). وفي هذا الخصوص ثمة كلام مهم أورده "روبرت ساتلوف"، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، عندما قال: "وقع حادث أسطول الحرية بعد ساعات من الموافقة على قرار معاهدة حظر الانتشار النووي. وهناك مجموعة من التصورات المتعارضة المتعلقة بذلك. فإدارة أوباما تقول إنها وقفت إلى جانب إسرائيل وقامت بحمايتها من ثعالب الأمم المتحدة الذين أرادوا خلق (لحظة جولدستون) أخرى، أي جو مشابه لما حدث في أعقاب نشر التقرير الذي أعده القاضي ريتشارد جولدستون بشأن الجرائم الإسرائيلية في الحرب على غزة. وفي هذا الصدد، تشير الولايات المتحدة بحق إلى المستوى العالي من الاتصالات الشديدة والشخصية التي جرت بين واشنطن وإسرائيل حول تقرير لجنة التحقيق التي ترأسها جولدستون كدليل على علاقة العمل السليمة بين الحكومتين". ويضيف ساتلوف: "لم تعلن واشنطن حتى الآن عن التزامها العلني الصارم بمنع الأمم المتحدة من تشكيل لجنة تحقيق خاصة بها حول حادث أسطول الحرية. كما لم تعمل على إيقاف مجلس الأمن عن تبني نهج يدين أولاً الحادث الذي وقع للسفينة التركية، ويطرح الأسئلة في وقت لاحق". الساخطون والراضون معاً عن السياسة الأميركية ينتظرون الآن انقضاء الشهرين القادمين حتى تتبين مدى نجاعة سياسة المساومة مع الدولة الصهيونية. ففي سبتمبر القادم ستنتهي المحادثات غير المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل و"القرار المؤقت"، بل والمزعوم، الذي اتخذته بوقف بناء بؤر "استيطانية" جديدة في مستعمرات الضفة الغربية، خاصة وأن الجميع يرى حجم التهديد الذي تشكله حماقات إسرائيل على المصالح الأميركية في المنطقة، مع تزايد شعور الإدارة الأميركية بعبثية محاولات إسرائيل تحقيق تقدم على مستوى التسوية وعموم الوضع في منطقة الشرق الأوسط، فضلا عن الإهانات الإسرائيلية الموجهة للمسؤولين الأميركيين تباعا (والتي انتقدها كثير من الإسرائيليين العقلاء) خاصة في مسألة بناء "المستوطنات" في القدس المحتلة والضفة. مثال آخر أشد وضوحاً هو الموقف الأميركي من الحصار على قطاع غزة. فكما أفادت صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن أوباما "يعتبر الحصار المفروض على القطاع حالا لا يمكن الدفاع عنه، ويعتزم الإلحاح على اعتماد مقاربة مغايرة تضمن من جهة أمن إسرائيل، وتتيح من جهة أخرى نقل مزيد من المساعدات إلى القطاع في محاولة لامتصاص التوجهات الدولية" المطالبة برفع الحصار كلياً. بمعنى آخر، تحاول الإدارة الأميركية، في هذه المرحلة الحرجة، "تسليف" إسرائيل من خلال تخفيف الغضب العالمي عنها وتحويل التوجهات العالمية باتجاهات مغايرة للرغبة المتعاظمة الداعية إلى رفع الحصار كليا، مع إبقاء الحصار لكن بشكل جزئي ينسف الواقع الموغل في الظلم لكنه "يضمن عدم توريد المواد التي يمكن استخدامها للأغراض العسكرية"، شريطة تأمين المستلزمات الحياتية للشعب الفلسطيني في القطاع! للجميع مصالح، وهذا أساس التعامل بين الدول، لكن ربما حان الوقت للولايات المتحدة أن تقوم بمراجعة بعض جوانب سياسة إدارة بوش تجاه الفلسطينيين والعرب، خاصة أن هؤلاء ابتعدوا كثيراً عن شعارات ثبت فشلها لشدة بعدها عن موازين القوى في اللحظة التاريخية الراهنة، فيما العرب أنفسهم أقروا "مبادرة سلام" ما زالوا متمسكين بها رغم مقارفات الاحتلال المستمرة. لكن مع استمرار "سياسة التسليف والمساومة" الأميركية، وتزايد الوعي العالمي -والأميركي جزء منه- واتساع العزلة الإسرائيلية... هل يصمد إصرار إدارة أوباما على حل الصراع العربي الإسرائيلي كبؤرة للتوتر تحول دون الاستقرار في عموم المنطقة؟ في هذا السياق، كثيرة هي الكتابات الإسرائيلية المطلعة التي تقرر أنه منذ توليه المسؤولية في "البيت الأبيض"، ورغم أنه لم تحدث على أرض الواقع تغيرات كبيرة تجاه القضية الفلسطينية، حرص أوباما على استمرار المثابرة الحازمة من قبل إداراته في طرح المواقف الواضحة تجاه تعنت إسرائيل الرافضة التجاوب مع طلب واشنطن إيجاد حل للصراع، أقله وقف بناء "المستوطنات"، ونهايته بتنفيذ "حل الدولتين" كما قالت به الإدارات الأميركية الأحدث، "جمهورية" كانت أم "ديمقراطية"!