في كتابه "الفائض المعرفي: الإبداع والسخاء في العصر المُتصل"، يدعونا "كلاي شيركي"، أستاذ الإعلام المساعد في جامعة نيويورك، المتخصص في تدريس المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية لتقنيات الإنترنت، إلى تخيل ما الذي يمكن للجيل الحالي فعله مع هذا الطوفان المنهمر من الفرص الذي أصبح متاحاً لأفراده، للمشاركة في هذا المحتوى الثقافي المتنوع، والمعلومات والأفكار التي لا حصر لها التي غدت متوافرة بلمسة زر في عصر السماوات المفتوحة. ويحكي لنا قصص أناس في مختلف أنحاء العالم، يستخدمون شبكة الإنترنت لحشد المعرفة، وتوفير الوقت والموارد اللازمة للقيام بحملات ضد التمييز بين الجنسين في الهند، أو لتنظيف القمامة الملقاة في كل مكان في باكستان، أو للتعرف على تفاصيل العنف الإثني في كينيا... وغير ذلك من مشكلات تستلزم عملا جماعياً. ويعتقد المؤلف أن العدو الرئيسي للناس في هذا العصر هو التلفزيون الذي يتسم بجاذبية آسرة ولا يكلف الناس شيئاً: فقط مجرد الجلوس على أريكة مريحة، والإمساك بجهاز للتحكم في اختيار القنوات، أو التهام حبات الفشار، واحتساء العصائر... ولا شيء غير الجهاز العجيب الذي يعرض فنوناً من متع المشاهدة البصرية التي تروق لأذواق المشاهدين. ويرى أن البديل لهذه الثقافة الجماعية التي يوفرها التلفزيون، كان في الماضي، الاتجاه إلى اهتمامات الثقافة الرفيعة، الأكثر تطلبية من التلفاز الذي يلبي كافة الرغبات دون أن يتطلب شيئاً. أما البديل لتلك الثقافة راهناً فهو نوع جديد من الثقافة بدأت ملامحه تتكشف، ويتعلق بالبحث والفعل والمشاركة والتعديل الذي يتم من خلال أزرار وأيقونات يضغط عليها المرء فيتحقق كل فعل من الأفعال السابقة. وهذه الثقافة الجديدة محفزة للنشاط والطاقات الإنسانية لأنها تنتج من قبل أناس يتحولون إلى مشاركين إيجابيين، وليس مجرد متلقين سلبيين، كما هو الحال في الثقافة التلفزيونية الجماعية. ورغم هذا الطرح الواضح، فإن مما يدعو للدهشة أننا نجد مواضع في هذا الكتاب نشعر فيها بأن هذه الحجج التي يعرضها المؤلف بصفاء ووضوح مثيرة للإعجاب، قد غدت مكشوفة أمام النقض والتفنيد. وفي الكتاب أيضاً مواضع أخرى يعرّض فيها "شيركي" نفسه لمخاطر السقوط في الفخ الذي يحذر النشء من الوقوع فيه، وهو الخلط بين التكنولوجيا وما يفعله الناس بها أو ما يريدونه منها. فأبناؤنا جميعاً يسرفون في مشاهدة التلفاز ليس على الشاشات الصغيرة وإنما على شاشات حواسيبهم الشخصية وأجهزة هواتفهم النقالة المتطورة، فالأجهزة المصممة في الأصل للتواصل غدت تستخدم في الترفيه، أي أن هناك فرقا بين التكنولوحيا وبين استخدامنا لها. ذلك ما يتعلق بالظواهر الجديدة في عصر الثورة الاتصالية. غير أن الكاتب يعود -مع كل ذلك- ليؤكد أن ما يجمعنا سوياً كبشر في الحقيقة هو الثقافة من الطراز القديم. فالعروض الحية تزدهر في كل مكان في الساحات والميادين والمتنزهات، لدرجة أن الحياة في بلاد الرفاه والوفرة تحولت إلى سلسلة لا تنتهي من المهرجانات الباذخة، والكرنفالات المزخرفة، والفعاليات الرياضية التي لا تكاد تنتهي. ويتحدث الكاتب عن المشاهدة الرياضية بإسهاب، ويرى أنها تقدم عرضاً باهراً وتجربة حية لانفجار العواطف وتبدلها من لحظة لأخرى، وهو عرض يتشارك في أدائه عشرات الألوف من الناس في تجربة جماعية للانفعالات، والضحكات، والدموع. ويقول إن تلك العروض تشبه إلى حد كبير ما يحدث أثناء الاحتفالات الدينية، وكل ما هنالك أنها مفصلة على مقاس مجتمع ما يعيش في إطار علماني، استهلاكي مادي. ولم يكن لدى المؤلف الكثير مما يمكن أن يقوله حول هذا النوع من الثقافة الجماعية التشاركية التي وجدت قبل أن يوجد عصر الإنترنت. لكنه يذكر أن شبكة الإنترنت المفتوحة نسبياً، والتي ورثناها، تمَُكِنْ المنظمات الذاتية الإدارة، والتشاركية، والتعاونية... كما تمكن من الإبداع والمشاركة الشعبية. وشبكة الإنترنت التي سنحصل عليها في المستقبل قد تكون على شكل قائمة خدمات حاسوبية مركزية، وتطبيقات حاسوبية مصممة خصيصاً للرغبات والاستخدامات الفرعية المدفوعة الثمن. وهذه الشبكة سوف تدار غالبا من جماعات مصالح مؤسسية، وتكون بالتالي أكثر قابلية للسيطرة الحكومية. سعيد كامل الكتاب: الفائض المعرفي: الإبداع والسخاء في العصر المُتصل المؤلف: كلاي شيركي الناشر: ألين لين تاريخ النشر: 2010