أحياناً نحتاج إلى دراسة علمية من أجل كشف الأمور البديهية، وفي هذا الإطار، يمكن القول إن أحدث اكتشاف – أن اللمس يؤثر في كيفية تصورنا للأشياء - يشبه أحيانا التحذير على فنجان قهوة ساخن يتصاعد منه البخار. ومثلما يعرف الجميع أن إراقة سائل ساخن على الرِجل يعطي إحساساً بالالتهاب، فإن الجميع يعرف أن حاسة اللمس تنقل معلومات عن الشيء أو الشخص الذي يتم لمسه، ولكن السؤال هو: كيف نؤول هذه المعلومات؟ وما هي الأفعال التي قد نقوم بها رداً على ذلك؟ "جوشوا إم. آكرمان" من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا سعى إلى الإجابة على هذين السؤالين عبر سلسلة من التجارب السيكولوجية، وخلص إلى أن بنية الشيء وصلابته ووزنه، كلها عوامل تؤثر في أحكامنا وقراراتنا. مرة أخرى الأمور البديهية: إن الوزن يعكس الأهمية ("المواضيع الوازنة") والقسوة ترتبط بالصلابة. وهكذا، بتنا الآن على الأقل نفهم الإحساس الذي يولده ملمس الكرسي الخشبي الصلب في الكنيسة. غير أنه على الرغم من بديهية هذه الخلاصات، فإن التداعيات مهمة، ذلك أن الطريقة التي نشعر بها بالأشياء يمكن أن تؤثر في كل شيء، من اختياراتنا أثناء عملية التصويت، إلى إنفاق المال، والتفاعل مع الآخرين. في إحدى التجارب، على سبيل المثال، أعطى آكرمان 54 متطوعاً ملفات تضم السيرة الذاتية لمتقدم لوظيفة، وكانت النتيجة أن أعطى المتطوعون الممسكون بالملفات الأثقل نقطة جيدة للمرشحين، مستنتجين أن أصحابها أكثر جدية. وفي تجربة أخرى، طُلب من المتطوعين إكمال أحجية بواسطة قطع ناعمة أو خشنة الملمس؛ وبعد ذلك قرؤوا سيناريو لقاء اجتماعي. فخمِّنوا من الذي أوَّلَ هذا التفاعل على نحو "خشن"؟ هذا التأويل أثر أيضاً في عمليات اتخاذ القرار اللاحقة، حيث كانت المجموعة التي مُنحت قطعاً خشنة أكثر ميلاً إلى الصلابة والصرامة في التفاوض. وعلى ما يبدو، فنحن لسنا مضطرين لأن نلمس الأشياء بأيدينا فقط من أجل الشعور بشيء ما، ذلك أننا نستجيب أيضاً للملمس الرخو أو الصلب، وهو ما يقودنا إلى تجربة الكرسي، والتي طُلب فيها من أشخاص تقديم عروض أسعار لإحدى السيارات: يرفض البائع العرض الأول، فيتلو ذلك على الفور عرض ثان. وكانت النتيجة أن قدم الأشخاصُ الذين يجلسون على كراس قاسية عروضاً ثانية أكثر انخفاضاً مقارنة مع الأشخاص الذين يجلسون على كراس أكثر رخاوة. وباستعمال أسلوب الاستقراء، لماذا لا نجعل المقاعد في مقر الأمم المتحدة مريحة أكثر؟ على أننا يمكن أيضاً أن نشرع في تصدير أرائك "باركالاونجر" المريحة إلى الشرق الأوسط؟ مثل هذه الأفكار جعلتني أفكر في موضوع الكتب وغيرها من منتجات القراءة المطبوعة في العصر الرقمي. فأنا من أولئك الأشخاص الذين يشمون رائحة الكِتاب قبل أن يقرؤوه، (وإذا لم تكن ممن يشمون رائحة الكتب، فليس ثمة مزيد من الأشياء لنناقشها). كما أن تجربة اللمس عند القراءة مهمة أيضاً من أجل متعة القراءة لدي؛ ذلك أن الإمساك بكِتاب يشبه اتصال الطفل الصغير ببطانيته المفضلة. وانسجاماً مع خلاصات "أكرمان"، فإن الكتاب ذا الغلاف الصلب القاسي هو أعلى مرتبة من الكتاب ذي الغلاف الورقي رخو الملمس، وذلك لأنه أكثر صلابة، وأكثر ثقلاً؛ وبالتالي، أكثر بقاء، وأكثر أهمية. إنه باختصار أفضل. ولكن، هل يمكن أن يكون للمس الحروف على ورقة مطبوعة مقابل قراءتها على شاشة الكمبيوتر أو الهاتف أو غيرهما علاقة بفهم الإنسان وحُكمه؟ وهل احتمال احتفاظ ذاكرتنا بالكلمات المطبوعة على الورق أكبر مقارنة مع تلك التي تطفو على الشاشات والتي تكون رهينة بمزاج البطارية أو قابلة للاختفاء بسبب البرق؟ لنعترف بذلك: إننا نقوم بطباعة القصص والأخبار التي نريد دراستها حقاً. ثم فكر أيضاً في اختلاف طريقة تعاملنا مع الرسالة المكتوبة بخط اليد مقابل الرسالة الإلكترونية. بل إن حتى الرسالة الإلكترونية المطبوعة على ورق تبدو أكثر أهمية – أو ملموسة أكثر – مقارنة مع ما نقرأه على الشاشة؛ ذلك أن جزءا من المتعة التي تولدها الرسالة الحقيقية المكتوبة بخط اليد، لا يكمن فقط في الجهد الذي بذله كاتبها في خط الكلمات على ورقة، ولكن أيضاً في حقيقة أن كاتب الرسالة لمس الورقة نفسها. فالتبادل هنا ليس تبادلًا تواصلياً فحسب، وإنما تبادل حميمي. إننا جميعا جزء من هذه التجربة الرقمية الهائلة التي نجهل إلى أين تأخذنا، ولكن الفراغ الملمسي الذي يطبع الوسائل الحديثة لا يمكن أن يكون تافهاً. ويبدو أن وسائل الاتصال المتطورة تكنولوجيا، على تقدمها الهائل من حيث السرعة والانتشار، أصبحت أكثر قسوة وخشونة مع الوسيلة. صحيح أن التقرب من شخص ولمسه بات أسهل من أي وقت مضى، إلا أننا لا نقوم أبدا باللمس والاحتكاك في الواقع؛ وبالتالي، فربما ما يحتاجه العالم اليوم هو كرسي أكثر رخاوة ونعومة! كاثلين باركر كاتبة أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"