خلافاً لحدود أميركا في الجنوب المتاخمة للمكسيك المتسمة عموماً بتكاثف دواعي القلق والإرباك، تتميز حدودها الشمالية مع كندا بالهدوء التام وتنعم بالسلم والاستقرار، ولعل مما يدل على ذلك الأسئلة الثلاثة التي وجهتها لي المسؤولة عن الحدود وهي تقف لوحدها في نقطة التفتيش: هل تحملون أسلحة نارية؟ لا، هل تحملون مخدرات؟ لا، هل معكم أكثر من 10 آلاف دولار من العملة الأجنبية؟ مع الأسف لا. وبهذه الكيفية انتهى الاستجواب الطريف الذي تم مع ذلك بملامح جادة، ثم قالت المسؤولة والابتسامة تعلو محياها: "مرحباً بكم في كندا". والحقيقة أنني كنت دائماً معجباً بكندا والكنديين، فعندما عملت مراسلا أجنبيّاً للصحف الأميركية كنت دائماً أنسجم بسهولة مع الدبلوماسيين الكنديين أينما كنت في الخارج، فهم على قدر كبير من الذكاء والمعرفة، وبعيداً عن الأضواء التي تسلط عادة على الدبلوماسيين الأميركيين والبريطانيين عادة ما ينجح الدبلوماسيون الكنديون في تطوير علاقات مع البلدان التي يعملون بها ويجمعون معلومات مفيدة، فضلا عن صياغة أفكار ورؤى تنطوي على الكثير من الرصانة والمصداقية. وعلى المستوى الدولي تتبنى كندا موقفاً معتدلاً كما لعبت العديد من الأدوار المهمة مثل تنسيقها الكثيف وتعاونها الواسع مع الأمم المتحدة ومشاركتها في عمليات حفظ السلام وكذلك الانخراط في مشروعات إنسانية عديدة. كما استضافت مؤخراً قمة مجموعتي "الثماني" و"العشرين". ولم تتردد كندا أبداً في إرسال شبابها إلى ميادين المعارك عندما يتعلق الأمر بالحروب العادلة. وبالنظر إلى قيمها المشتركة مع الولايات المتحدة ساعدت كندا أيضاً في تحقيق العديد من الأهداف العالمية دون أن يعني ذلك الارتهان للأجندة الأميركية، بحيث حافظت على مسافة في المواقف ودافعت عن استقلالية قرارها. أما داخليّاً فقد نجحت كندا في تدبير التوتر والتجاذب بين سكانها الناطقين بالإنجليزية ومواطنيهم الناطقين بالفرنسية، إذ فيما تطالعك أسماء الشوارع الإنجليزية في أونتاريو وكأنك في لندن مثل "الطرف الأغر" و"بول مول" يمكنك أيضاً الاستمتاع بالمقاهي على الطراز الفرنسي في مونتريال وكأنك في باريس. ويعاني الكنديون من ثقل الضرائب مثل ضريبة المبيعات التي تصل إلى 13 في المئة، فضلا عن الضريبة المفروضة على مجموعة من الخدمات الأخرى كالحلاقة ومراسيم الدفن وغيرها، بل أكثر من ذلك يصل سعر البنزين في كندا إلى خمسة دولارات أميركية للجالون، وهذا السعر المرتفع يدفع بالكثير من الكنديين إلى التوجه جنوباً نحو الولايات المتحدة لملء خزانات سياراتهم بالوقود كلما أرادوا قطع بلادهم من الشرق إلى الغرب، أو العكس، وقد اخبرني أحد رجال حرس الحدود الأميركيين أن الكنديين يتوغلون بعمق خمسين ميلا داخل الولايات المتحدة لا لشيء سوى للتزود بالوقود الرخيص في محطات البترول الأميركية. وفيما كان الدولار الكندي في السابق أقل قيمة من نظيره الأميركي بات اليوم على قدم المساواة معه، هذا في الوقت الذي يستفيد فيه الكنديون من نظام صحي يكفل التغطية الجماعية لكل المواطنين دون استثناء وإن كان البعض يشكك حاليّاً في مدى فعاليته. وبالإضافة إلى ذلك يتوفر الكنديون على شبكة متطورة من الطرق السريعة خلافاً للشبكة الأميركية التي تعاني من الترهل والتقادم، دون أن ننسى الموارد المهمة الأخرى التي تنعم بها كندا مثل الغابات والمياه والوقود الأحفوري والمعادن والمنتجات الزراعية، فضلا عن شبكة من المحطات النووية التي تنتج الكهرباء. غير أن الكثير من الأميركيين يعتبرون هذا الهدوء والاستقرار اللذين تتمتع بهما كندا باعثين على الملل، فقبل سنوات وعندما كنت الناطق الرسمي باسم وزير الخارجية "جورج شولتز" ذهبنا في زيارة إلى كندا مصطحبين معنا مجموعة من الصحفيين لتغطية الحدث فكان الجميع يشتكي من الملل الذي تنطوي عليه الزيارة وانعدام القصص الإخبارية لوسائلهم الإعلامية، وفي السنوات الأخيرة عندما كنت أدرس صفاً من الطلبة في إحدى الجامعات استدعيت صحفيّاً مخضرماً للحديث عن العلاقات الأميركية- الكندية فأدلى بملاحظة مفادها أن كندا لا تحظى بتغطية مهمة في الصحافة الأميركية، وحينها احتج الطلبة واقترح كل واحد منهم طريقة للفت نظر الأميركيين إلى جارتهم الشمالية. ولكن الضيف فاجأ الجميع حين رد بأن آخر ما تسعى إليه كندا هو الالتفات الأميركي، وعلى العموم تبقى كندا على رغم الروتين الذي يطغى عليها هي أفضل جار للولايات المتحدة. جون هيوز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"