لقد أضعنا ليلتها الطريق، إذ لم يكن سهلاً الوصول إلى الإقامة الرئاسية في منتجع كامب ديفيد بسبب ضيق الطريق والتوائها، هذا فضلاً عن العتمة التي لفت المكان وأعاقت الرؤية، ويبدو أننا أضعنا منعطفاً ما في مكان معين من منعرجات الطريق، وحينها قلت مازحًا لدنيس روس، كبير المفاوضين الأميركيين في القمة الفلسطينية- الإسرائيلية التي احتضنتها كامب ديفيد يومذاك: كيف يمكننا مساعدة بيل كلينتون على التوصل إلى اتفاق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي باراك، والزعيم الفلسطيني عرفات، إذا لم ننجح حتى في الوصول إلى مقر إقامة الرئيس؟ والحقيقة أنني لم أكن أعرف بأن مزاحي القاتم ذلك سيتحول إلى واقع قائم بعد فترة قصيرة؛ فقبل عشر سنوات وفي مثل هذا الشهر أقنع رئيس وزراء إسرائيلي مستعد للمجازفة رئيساً أميركيّاً مستعداً هو أيضاً للمخاطرة بعقد قمة تاريخية مع زعيم فلسطيني لم يبدِ القدر نفسه من المجازفة في نظري. فالصعود إلى قمة التلة بحثاً عن اتفاق ينهي الصراع ثم الانحدار بعدها إلى واد سحيق من انعدام الثقة والمرارة والعنف التي أعقبت انهيار تلك الجهود وتعثر عملية السلام ما زال يلقي بظلاله حتى اليوم على المنطقة وإن كان ما زال أمامنا وقت للتعافي من تداعياته والعودة إلى عملية السلام. ولاشك أن قصة كامب ديفيد بكل ما تحمله من مرارة تكتسي أهمية قصوى مع جهود رئيس أميركي آخر مستعد للمغامرة، بعدما أعاد "ضبط" علاقته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، من قراره المصيري حول صناعة السلام في الشرق الأوسط: فهل سيقترح خطة أميركية شاملة؟ أم سيقتصر على طرح مقترحات محددة تجسر الهوة بين الطرفين حول قضايا أساسية؟ أم أنه سيقترح قمة تطرح كل هذه القضايا على طاولة الحل؟ ومهما كانت المقاربة التي سيختارها أوباما، علماً أنه قد يحتاج في ظل الجمود الحالي إلى المقاربات الثلاث معاً، لابد أولا من فهم الأسباب التي أدت إلى فشل القمة السابقة. ولعل مما يحسن الاستئناس به هنا من الأقوال المأثورة أن الأديب الأميركي الشهير "مارك توين" الذي قال إن التاريخ لا يعيد نفسه أكد هو نفسه مع ذلك أن التاريخ له إيقاع خاص، ما يجعلنا أمام ثلاثة دروس أساسية ما زال صداها يتردد منذ قمة 2000 ومن الضروري الاستفادة منها في ظل المحاولات الجارية حاليّاً للتوصل إلى تسوية: أولا يتعين معرفة الموقف الحقيقي للإسرائيليين كما الفلسطينيين، وهو ما لم نكن نعرفه في عام 2000، فلو عرفنا موقف كل طرف على حدة لأدركنا أن الفجوة بين الطرفين شاسعة، وأنه لا أحد منهما، باراك أو عرفات، كان مستعداً لدفع الثمن لتجسير تلك الهوة، ناهيك عن إنهاء الصراع، وبالطبع لا توجد قمة سلام لا تنطوي على احتمال الفشل، ولا يوجد مفاوض يستطيع القول على وجه الدقة أين يقف طرفا الصراع قبل بدء المفاوضات والتعبير عن تلك المواقف. بل إن القمم، كالمراجل المليئة بالماء، لا أحد يعرف أين سيتجه فيها القادة تحت حرارة الضغط، وكيف ستتحول أفكارهم مع تقدم المفاوضات، ولكننا في عام 2000 واجهنا اختلافات كبيرة بين الطرفين قوضت الثقة بينهما، كما أننا بنينا تقديراتنا استناداً إلى ما هو ممكن وليس إلى ما هو محتمل دون التحلي بقدر أكبر من الواقعية. أما الدرس الثاني من القمة فهو معرفة الراعي لموقفه الذاتي وإدارة القمة على هذا الأساس، فكلينتون على رغم ذكائه وقدراته لم يُدر القمة ولم يتحكم في مجرياتها، والحقيقة أننا أيضاً كمساعدين له لم نضع أمامه استراتيجية قابلة للنجاح، والسبب أننا تركنا عرفات وباراك يضعان أجندتهما الخاصة دون وجود صيغة أميركية شاملة تتحكم في القمة. وفيما كان يفترض في القمة أن تستمر 13 يوماً انتهت فعليّاً في اليوم الرابع عندما قدمنا إلى باراك ورقة أميركية تتضمن أفكاراً لتعزيز الثقة واجهها بالرفض، وبعد إعادة صياغتها وعرضها على عرفات أشاح بوجهه عنها هو الآخر. والحقيقة أنه كان على الولايات المتحدة تبني موقف حازم منذ البداية بطرح أفكار على الطرفين والإصرار على تلقي رد فيه مقترحات محددة للوصول إلى اتفاق. وأخيراً يبقى الدرس الثالث المتمثل في الوقوف إلى جانب الحل وليس إلى جانب طرف على حساب آخر، وهو ما لم نقم به خلال قمة 2000، وبعبارة كيسنجر فقد كنا نعمل كمحامين ندافع عن إسرائيل بدل التركيز على الاتفاقية نفسها، ولكن لابد من الاعتراف أيضاً بأن عرفات لم يسهل الأمور علينا، فباعتباره الطرف الأضعف لم يأتِ للتفاوض بل لضمان بقائه والوقوف إلى جانب كلينتون. ومع ذلك لا يمكن النجاح أبداً ونحن نبني منطلقاتنا الأساسية في عملية التفاوض على ما هو مقبول لدى إسرائيل أولا، وأن نعرض الأفكار التي نتوصل إليها على إسرائيل قبل الفلسطينيين. واليوم بعد مرور عشر سنوات على القمة وانعدام فرصة حقيقية لإنهاء الصراع والتوصل إلى تسوية يأتي أوباما الذي ربما يختلف معنا في هذا التقييم القاتم باعتباره زعيماً جاء للتغيير ليقرر البدء في محاولة جديدة، ولهذا السبب عليه الاستفادة من دروس يوليو 2000 بأن يعرف جيداً ماذا يريد من كل طرف قبل الإعلان عن أية قمة، وأن يفهم حدود الهوة بين الطرفين ويسعى إلى تجسيرها، ثم التحكم في وتيرة وبنية المفاوضات بتبني صيغة واضحة. وأخيراً عليه تجنب الحديث باسم طرف على حساب الآخر. أما إذا تجاهل أوباما هذه الدروس وفشلت قمة أخرى في التوصل إلى حل، فإن الرئيس الذين بنى تصوره على حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي سيجد نفسه في موقف الزعيم الذي انتهى بدفن هذا الحل ووضع حد لوجوده. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"