يبدو أن الانتقادات التي وجهها المجتمع الدولي إلى إسرائيل عقب هجومها المأساوي على أسطول الحرية أثارت لديها حساسية غير مسبوقة تجاه الرأي العام العالمي. وقد بدت هذه الحساسية واضحة اليوم مقارنة بأي وقت مضى من تاريخ الدولة العبرية، التي ظلت تمارس كامل وحشيتها على الشعب الفلسطيني في تجاهل تام للرأي العام العالمي، وظلت تقترف ما تقترف دون أن يطرف لها جفن للانتقادات الموجهة إليها، وتتصرف وكأنها دولة فوق القانون. كما بدت هذه الحساسية واضحة في محاولات الحكومة الإسرائيلية صرف الأنظار عن الحصار اللاإنساني وغير القانوني الذي تفرضه على سكان قطاع غزة، ليس طبعاً استجابة منها للانتقادات الدولية الموجهة إليها بهذا الشأن، وإنما بسبب فشل الحصار نفسه في كسر سيطرة "حماس" على القطاع. ويشير اعتراف إسرائيل بهذه الحقيقة، ضمن ما يشير، إلى صعوبة تجاهل كافة الفصائل أو الاستهانة بدورها في أي مساعٍ مستقبلية ترمي إلى إبرام صفقة تسوية سلمية نهائية للنزاع الإسرائيلي/ الفلسطيني. ولا جدال في أن القرار الذي اتخذته إسرائيل بتخفيف الحصار الذي تفرضه على سكان القطاع قرار شكلي أكثر من كونه حقيقة أو ذا مضمون. فقد دمر هذا الحصار المستمر منذ عام 2006 اقتصاد القطاع وتسبب في معاناة يصعب تصورها لمواطني القطاع البالغ تعدادهم 1.5 مليون نسمة، وتشير الإحصاءات إلى أن نسبة 80 في المئة منهم تعتمد على المعونات الغذائية الخارجية. فعلى إثر استكمال إسرائيل لما عرف حينها بخطة الانسحاب من القطاع، أعلنت في عام 2005 نهاية الاحتلال العسكري لغزة، وقطعت على نفسها وعداً بتحمل المسؤولية كاملة عن أمن سكان القطاع وخيرهم ورفاههم! وكثيراً ما زعم المسؤولون الإسرائيليون وبعض المعلقين والمحللين السياسيين المتعاطفين مع تل أبيب أن انسحاب إسرائيل من القطاع لم يحقق لها الأمن ولا السلام مع الفلسطينيين، ما يعني أنه ليس لإسرائيل أن تنسحب من أية أراض فلسطينية أخرى تحتلها. أما الحقيقة فهي أن إسرائيل انسحبت عسكريّاً من غزة، بيد أنها واصلت سيطرتها على تنقل المواطنين وحركتهم من وإلى داخل القطاع، وكذلك واصلت سيطرتها على تسجيل سكان غزة، وعلى أجوائها وبرها وبحرها. وبعبارة أخرى فقد واصلت إسرائيل احتلالها لغزة بوسائل وأشكال أخرى غير الاحتلال العسكري المباشر. وفي ظل هذه الظروف فإنه ليس متوقعاً لقرار إسرائيل الذي اتخذته بشأن زيادة السلع والبضائع المسموح بدخولها إلى القطاع -وهو تطور إيجابي بصرف النظر عن أسبابه ودوافعه- أن يحدث أثراً إيجابيّاً يذكر على اقتصاد غزة المحلي الذي لحق به دمار هائل، ولا التخفيف من مستوى معاناة المواطنين، ولا على حرية تنقلهم وحركتهم. ومن بين المؤشرات الأخرى الواضحة الدالة على تزايد حساسية إسرائيل تجاه الانتقادات الدولية الموجهة إليها، القرار الذي اتخذته بشأن تكليف لجنة للتحقيق في مأساة الهجوم على سفينة أسطول الحرية. ومن فرط القلق الذي أبدته إسرائيل إزاء هذه الانتقادات، فقد تعهد وزير دفاعها إيهود باراك للأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" بإنشاء لجنة مستقلة للتحقيق في تلك الأحداث، على أمل تخلي الأمم المتحدة عن خطة للتحقيق في تلك الأحداث تضطلع بها لجنة أممية مستقلة. وقال باراك مطمئناً الأمين العام إن إسرائيل ماضية قدماً في تحقيقها المستقل. كما أكد على حياد ونزاهة التحقيق الذي تجريه لجنة إسرائيلية قيل إنها مستقلة. ولكن هل لإسرائيل أن تحقق مع نفسها؟ فهناك تضارب المصالح، مضافاً إلى فقر السجل التاريخي لإسرائيل في مجال التحقيق في الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين وبقية جيرانهم. وكلاهما عنصران يثيران شكوكاً عميقة مبررة حول نزاهة وحياد التحقيق الذي وعدت به. بل المرجح أن يكون القصد من هذه المبادرة الإسرائيلية هو امتصاص موجة الغضب العالمي وتثبيط همة المجتمع الدولي وعزمه على إجراء تحقيق مستقل يعول عليه. والحقيقة أن التفويض الذي منحته الحكومة الإسرائيلية للجنة تحقيقاتها يؤكد عدم استقلالية التحقيق وصعوبة الاعتداد بالنتائج التي سيفضي إليها. فليست هذه اللجنة هيئة تقصي حقائق تتمتع بصلاحيات كاملة بتلك الصفة. وعليه فهي تفتقر إلى الاستقلالية وتبقى رهناً لحسن نوايا رئيس الوزراء وغيره من المسؤولين الإسرائيليين. ذلك أن قرار إنشائها قد نص على أن تعمل اللجنة "بالتشاور مع وزير العدل والنائب العام". كما ذهبت استقلالية اللجنة هباءً إثر إصرار الحكومة على قبول اللجنة للنسخة العسكرية من قصة ما حدث في تلك السفينة المنكوبة. وليس ذلك فحسب بل لقد طولبت اللجنة بعدم التحقيق مع أي من المسؤولين العسكريين أو إلزامهم بتقديم أية بيانات أو إفادات لها. وعليه فإن على اللجنة أن تعتمد على الوثائق التي يوفرها لها مسؤولو الجيش. ولنا أن نتصور كيف سيتبرع هؤلاء المسؤولون بمعلومات تفيد بارتكاب الجنود أفعالاً وممارسات غير قانونية بحق ركاب سفينة أسطول الحرية! فبالنظر إلى بؤس سجل الجيش الإسرائيلي في التحقيق بشأن الجرائم والممارسات غير القانونية التي طالما ارتكبها بحق الفلسطينيين، أصابت منظمة "هيومان رايتس ووتش" في قولها إنه يصعب على اللجنة المكلفة أن تخرج بنتائج تفضي إلى الحقيقة، طالما أن عملها سوف يعتمد على المعلومات والوثائق التي يوفرها لها الجيش. ولكي تخفف إسرائيل من غضبة الرأي العام الدولي عليها، أعلنت عن انضمام اثنين من "المراقبين" الدوليين إلى عضوية اللجنة. ولكن ليس لهذين العضوين أكثر من صفة "المراقب" وربما لا يحق لهما التصويت على النتائج التي تتوصل إليها اللجنة، إضافة إلى احتمال حرمانهما من الاطلاع على الوثائق التي ربما يقرر رئيس اللجنة أن الاطلاع عليها يلحق ضرراً بالأمن الوطني الإسرائيلي. وفوق ذلك كله فإن من بين هذين العضوين، ديفيد ترمبل، الذي لعب دوراً رئيسيّاً في إنشاء "لجنة أصدقاء إسرائيل" مؤخراً! وختاماً، ليس لنا سوى أن نتوقع بقاء إسرائيل على تجاهلها للانتقادات الدولية الموجهة إليها، نظراً لسيادة نزعة الأيديولوجية الصهيونية المتطرفة في صفوف اليمين الإسرائيلي الحاكم، وأيضاً لغياب الرادع الدولي ذي التأثير المحسوس.