نستطيع أن نتصور كم من الجهود الفكرية يبذلها الشرقيون في سبيل إيضاح موقفهم "المبدئي" من مسألة المثاقفة بينهم وبين الآخرين، خصوصاً الغربيين. والحق، إن لهذه المسألة تاريخاً طويلاً ومُفعماً بالالتباسات والإشكالات، بل أحياناً كذلك بالصراعات. والأمر يتصل -كما هو بيِّن- بعلاقة الشرقيين عموماً والعرب المسلمين على نحو خاص بالآخر، على امتداد عقود ربما تبدأ بالقرن السابع الميلادي، وهي مستمرة حتى مرحلتنا الراهنة. وبالطبع، ليست المثاقفة هنا حالة من الاتصال الثقافي النظري العام فحسب، وإنما هي حالة مركَّبة تلتقي فيها -إضافة إلى الثقافة- التجارة والأسفار والحروب وغيرها، من شؤون الحياة. وغالباً ما نشأت مشكلات بين الفريقين، وتحديداً فيما يتصل بمرحلة وجود العرب المسلمين في الأندلس، وبعد ذلك مع ظهور الهيمنة الغربية الاستعمارية وإخفاق المشروع العربي. يهمنا من ذلك الشِّق الأول، فهذا يمارس دوراً ملحوظاً في العلاقة بين العرب المعاصرين والغرب الراهن، بالرغم من أن الأمر يتصل بـ"غربيين" انتموا إلى العصور الوسيطة، حيث أتيح للعرب أولئك "المسلمين" أن يُحدثوا تحولاً حضارياً، أسهم في مصائر الغرب اللاحق. وهذا ما عبَّر عن نفسه في كونه تجسيداً للحضارة العربية الإسلامية. لكن هذه الأخيرة يرى فيها بعض الشرقين حالة مختلفة عن تلك الحضارة، بحيث ينبغي تاريخها بوصفه تاريخ جرائم. لقد تبلور مثل ذلك الموقف لدى مجموعات إسلامية مناهضة للغرب وتندرج في نطاق نمط من "الإسلام السياسي"، ويمكن أن نرى في الكاتب أبي الأعلى المودودي أحد ممثلي هذا الموقف، فلقد أعاد "اكتشاف" مصطلح الجاهلية في سياق إحكام قبضة الاستعمار الغربي على الهند وبلدان شرقية أخرى كثيرة. فهو يرى أن "عصر الجاهلية المحضة الجديدة والمعاصرة والمتحضرة"، يتمثل في الحضارة الغربية المهيمنة. ومن ثم، فإن وصف الحضارة التي تبلورت وتطورت في مدن قرطبة وبغداد ودلهي والقاهرة، بصفة "الإسلامية"، إنما هو أمر فاسد، نظراً لأنها نمت في مناطق خضعت للغرب، سواء في القرون الوسيطة أو في العصر الحديث والمعاصر. وعلى هذا، لا يصح التحدث عن "الحضارة الإسلامية" في الحالة التي نحن فيها، بمثابتها إسلامية. "فليس للإسلام دخل فيها ولا صلة. إن تاريخها ليس إسلامياً، بل الأجدر أن "يكتب في سجل الجرائم بمداد أسود"، (جاء ذلك في كتاب المودودي الحكومة الإسلامية - ص 171، طبعة القاهرة 1977). والملفت في ذلك عملية التنصُّل من العلاقات المديدة، التي نشأت بين الإسلام العربي وغيره وبين أوروبا، وكانت تعبيراً عن مثاقفة واسعة وعميقة حدثت بين السكان الأصليين والمسلمين (الغرب وغيرهم). وكان ذلك في مناطق أوروبية. ومن ثم، يجيء جهد المودودي وأمثاله مُضاداً لمن يسعى الآن من العرب والمسلمين إلى التأكيد على مثاقفتهم وتسامحهم مع الغرب والعالم، تحت عنوان: انفتاح المسلمين والعرب على الآخر.