متوحشة، همجية، فظة... هذه ترجمة الوصف الذي استخدمته الصحافة البريطانية لتدابير التقشف الحكومية. بعد أسابيع ثلاثة من الإنذارات بل التهديدات اليومية وعلى مدار الساعة، اقتحم وزير الخزانة الجديد جورج أوزبورن البيوت والمؤسسات والشوارع والمدارس والمصانع والمستشفيات ليفرض نمط عيش جديداً على الجميع. كان رئيسه ديفيد كاميرون باشر، منذ لحظة دخوله مقر الوزير الأول، وعيده للبريطانيين بسنوات طويلة مؤلمة، خمس منها في المدى المنظور، وطالما أن المحافظين في الحكم، لأن واجب التصدي للعجز ملحّ وأكثر من ضروري. ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان: ماذا كان العمال ليفعلوا لو فازوا في الانتخابات؟ الشيء نفسه على الأرجح، لأن الوضع المالي للدولة بات مكشوفاً. لكن، لماذا لم يبدأوا الإجراءات قبل سنة، مثلاً؟ ربما لأنهم كانوا يعرفون أن حظوظهم للبقاء في الحكم ضئيلة، ففضلوا تأجيل الآلام لتكون بمثابة "هدية" لمن يأتي بعدهم، وتكون لديهم بالتالي بضاعة جيدة للاشتغال بالمعارضة. البريطانيون يحبّون أفلام الرعب، لكن هذا الفيلم خرج من الشاشة ليحتل الواقع، وبكل تفاصيله. عندما رأوا ما حصل في اليونان لم يصدِّقوا أنهم سيمرون بالتجربة ذاتها. فالحكومة السابقة لم تدق أي ناقوس، وظلت حتى لحظتها الأخيرة هادئة ومطمئنة. لكن المشكلة تعممت الآن أوروبيّاً. فإسبانيا تستعد، إيطاليا كذلك، ألمانيا تتلكأ، فرنسا دخلت في النفق، وأساساً ليست الولايات المتحدة نفسها في وضع تُحسد عليه. قبل سنوات كان التقاعد المبكر هو القاعدة، أما التقاعد في الستين أو ما بعدها بسنتين فاعتبر من المكاسب الاجتماعية التي لا تليق ولا تقدر عليها سوى الدول المتقدمة، لكنها تسعى الآن جميعاً إلى إقناع الناس بتقاعد متأخر مرشح لأن يمتد حتى السبعين. والعبرة هي أن تساهم دول أوروبا مجتمعة في مساعدة إحداها على استبعاد كأس الإفلاس، وهذا ما تأمّن لليونان، أول الساقطين من أعضاء عائلة "اليورو"، لكن الآخرين وجدوا أن هبّتهم لنجدة أحدهم تعرّضهم هم أيضاً للخطر. اصطدم العزم على التضامن بمعادلة "النية متوفرة والقدرة مفتقدة". ومع ذلك كان لابد من ركوب المجازفة، خصوصاً أن الجميع خشي امتداد العنف في الشارع اليوناني إلى شوارعهم. وفي غمرة التحوُّط مما هو آتٍ، فهم الألمان مثلاً أنهم يجب أن يعملوا أكثر فيما هم يساعدون اليونانيين، لكنهم وجدوا أن هؤلاء يتظاهرون ضد مدِّ سن التقاعد، لذا تساءل ذلك الألماني هل عليه أن يعمل حتى سن السبعين كي يتمتع نظيره اليوناني بتقاعده في الخامسة والستين؟ مع انعقاد قمة الدول العشرين قبل أيام، بدا واضحاً أن العالم لا يزال في لجة الأزمة المالية. وعلى رغم أن هذه الأزمة كانت مسؤولية البنوك في الجانب الأكبر منها، بل رغم أن الحكومات اغترفت من المال العام لترفع البنوك من عثرتها، إلا أن هذه أخذت ثم عاودت العبث، ويحاول بعضها التهرب من دفع ما استحق عليه. أقطاب الدول العشرين لا يزالون على خلافهم حول الطريقة المقترحة على البنوك، فهم يخشون سلبيتها، لأنها ستدفع الضريبة بعد أن تنتزعها مضاعفة من الناس، لذلك فالأفضل أن تبادر الحكومات إلى أخذها مباشرة من مواطنيها. لكن هذه أفضل وصفة غبية لاستفزاز الاضطرابات. فعندما تجمد الرواتب وتزاد الضرائب ستختل ميزانيات العائلات ومعيشتها، وعندئذ يبقى الشارع متنفساً ولو غير مجدٍ للاحتقان. لكن العديد من الحكومات يرفق إجراءات التقشف بتشريعات مستحدثة لاحتواء التحركات النقابية، أي لصبّ الملح على الجروح. آخر ما كانت قمة العشرين تريد سماعه هو تحذيرات الأمم المتحدة من أن العالم يتعثّر في "برنامج الألفية" لمكافحة الفقر، أو الدعوات لمزيد من المساعدات للدول النامية، فعندما تكون الدول الغنية مأزومة كيف يمكن أن تكون حال الدول المحتاجة أصلاً. لكن السؤال الأهم وسط شد الأحزمة الراهن هو: هل أدرك الأغنياء أخيراً أسباب أزمة 2008 وهل هم عازمون فعلاً على معالجتها؟ ما يستدل إليه من التداعيات أنها لا تزال ماثلة وأن التعافي منها بعيد. فكل أزمة تستبطن أخرى، وهكذا.