في جميع الحروب التي خاضتها بلادهم، اعتاد الأميركيون على تصور الحكايات والقصص التي توضح ما حدث وتهيئ الجمهور لقبول نتائجه. فقد ساد اعتقاد عام عقب حرب فيتنام على سبيل المثال بأن المسؤولين المدنيين في واشنطن هم الذين أججوا نيران ذلك النزاع بتدخلهم الإداري في الشأن الحربي وسيطرتهم الجزئية على الجنرالات العسكريين. وبعد حرب الخليج الأولى في عام 1991 تمكنت إدارة بوش الأب من إيصال رسالة تلخص مضمونها في القول بالنصر الكبير الذي حققته الولايات المتحدة في تلك الحرب بفضل وضوح المهمة المحددة التي أوكلت إلى الجيش، وتوفير الموارد اللازمة له، وإعطائه الحرية الكاملة في القيام بمهمته على النحو الصحيح. وعندها قال جورج بوش الأب: "بعون الرب استطعنا تجاوز متلازمة فيتنام مرة واحدة وإلى الأبد". أما هذه المرة، فإن من المتوقع أن يكون لصعود وانهيار ماكريستال، القائد العام للقوات الأميركية في أفغانستان سابقاً، دور رئيسي في القصص التي سنحكيها في نهاية الأمر عن المهمة الأفغانية. ويجدر بالتذكير أن أوباما أعفى يوم الأربعاء الماضي من منصبه القيادي في الحرب الأفغانية المتعثرة فيما يبدو، إثر مقال صحفي مفرقع نشر في مجلة "رولنج ستون" ظهر فيه ماكريستال وعدد من كبار مستشاريه وهم ينتقدون القيادة المدنية بما فيها أوباما نفسه ونائبه "جو بايدن"، إضافة لانتقادهم لبعض الحلفاء الأجانب. وسواء تعلق الأمر بحرب فيتنام أم بحرب الخليج الأولى، فقد ظلت القصص المحبوكة عنهما غير مكتملة إلى اليوم. ذلك أن المدنيين لم تكن لهم تلك الإدارة الجزئية للنزاع حسبما نسب إليهم على وجه عدم الدقة في التعبير. وكان الرئيس جونسون قد أصاب في تقليصه لنطاق القصف الجوي في حدود ضيقة للغاية في فيتنام الشمالية، مخافة أن تستفز سعة عمليات القصف كلاً من روسيا والصين وتجرهما إلى حلبة النزاع الفيتنامي، وبذلك يكون قد اتسع نطاق الحرب وازداد خطرها إن حدث ما خشيه الرئيس حينها. أما الحملة العسكرية على جنوب فيتنام، بما فيها عمليات القصف والبحث عن الأعداء وقتلهم، فكانت نتاج عمل عسكري تقليدي يفهم الحرب على أنها العثور على العدو وقتله، وليس خوض حرب خاصة ضد متمردين غير تقليديين. وبالقدر نفسه فقد كان ينبغي للقصة الحقيقية عن حرب الخليج الأولى أن تقر بإخفاق الولايات المتحدة في تدمير قوة صدام حسين، ما نجم عنه تدشين سنوات عديدة من العقوبات الدولية المفروضة على العراق، ليصل الأمر في النهاية إلى خوض حرب شاملة ضده بعد عقد لاحق لحرب الخليج الأولى. ويجب القول الآن إن الحروب الحالية التي تخوضها أميركا في كل من العراق وأفغانستان ستصنع قصصها الخاصة بها دون شك. وقد رد البعض النجاح الهش المهزوز الذي تحقق في الحرب العراقية إلى استراتيجية زيادة عدد القوات، ونشر خمسة ألوية عسكرية إضافية، وهي إجراءات قامت في الأساس على تبني استراتيجية جديدة وتعيين قائد عسكري جديد في العراق عام 2007. غير أن القصص المتداولة الآن لم تتمكن بعد من كشف التحول المفاجئ الذي حدث في مسار الحرب، وأضفى عليها بعض النجاح الذي نراه الآن. صحيح أن نشر الألوية الإضافية الخمسة كان له دور، وكذلك تعيين بتراويس، فضلاً عن الدور الذي قام به السفير الأميركي في العراق عندئذ، رايان كروكر. كما يصح الاعتراف كذلك بالدور الذي لعبه التحول الذي حدث في أوساط المسلمين السُّنة وانحيازهم إلى صفوف القوات الأميركية هناك. بيد أن جانب الدور العراقي من هذه القصة لا يزال مسكوتاً عنه إلى حد كبير. والمقصود بهذا الدور: نمو حجم وقدرات قوات الأمن الوطني العراقي، والصحوة العشائرية التي حدثت في محافظة الأنبار، وما أسفر عنها من مقاومة ناجحة لعناصر تنظيم "القاعدة". وفوق ذلك كله القناعة التي سادت بين المسلمين السُّنة هناك بخسارة هيمنتهم السابقة على السلطة، وبدء انخراط الكثير من فصائلهم في العملية السياسية الديمقراطية الناشئة. وعليه فليس متوقعاً للحرب الأميركية الحالية على العراق، أن ترتهن إلى سهولة تفسير النسخة الأولى لحرب الخليج. وفيما يتصل بأفغانستان، فإن هناك ثلاث قصص مثيرة للقلق ويبدو أنها ستلعب دوراً في تفسير النتائج الصعبة المريرة المتوقعة لحرب اتفق "الجمهوريون" و"الديمقراطيون" على وصفها ذات يوم بأنها "حرب ضرورة". وأولى هذه القصص أن مصير هذه الحرب الفشل، طالما أن أفغانستان عرفت منذ تاريخها القديم بأنها "مقبرة للإمبراطوريات". وعليه فإن مصير الحرب الأميركية الحالية لن يكون أفضل حالاً من مصير الحرب الاستعمارية البريطانية، ولا مصير الغزو السوفييتي لأفغانستان. أما ثانية القصص فتدور حول ما يوصف بأنه خيانة مدنية للجيش الأميركي. يلاحظ أن قصة صعود وانهيار الجنرال ماكريستال يمكن أن تجد لها مكاناً مناسباً في أي من القصتين أعلاه. ولكن هل صحيح أن أفغانستان هي فعلاً مقبرة تاريخية للإمبراطوريات؟ وهل صحيح أن المسؤولين المدنيين في واشنطن خانوا جيش بلادهم وطعنوه من الخلف؟ هذان السؤالان ربما يقودان إلى اعتراف لا مناص منه بتعقيد واقع الحرب الأفغانية، تماماً مثلما كان معقداً واقع الحربين الفيتنامية والعراقية الأولى. على أن ذلك الاعتراف لا ينفي انتهاء جميع القصص الدائرة عن الحرب الأفغانية الحالية إلى استنتاجين رئيسيين أولهما: إلقاء اللوم دائماً.. دائماً.. دائماً على المسؤولين المدنيين عن أي حرب فاشلة. وثانيهما الاعتراف بعدم كمال أو مثالية المؤسسة العسكرية الأميركية وقادتها. وفي سياق هذا الاعتراف الأخير، يتوقع أن تكون لعودة الجنرال بتراويس بتسليمه لزمام الحرب الأفغانية -على خلفية النصر السابق الذي حققه في العراق- مساهمة كبيرة في حبك خيوط قصة الحرب الأفغانية، سواء كانت عودة الجنرال هذه بطولية أم مأساوية أم كلتيهما معاً. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إليوت إي. كوهين أستاذ بكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز ومستشار سابق بوزارة الخارجية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"