"الحداثي"،"الليبرالي"،"التنويري"...وجوه نظرية ثلاثة ترمز لصراع الأفكار في منطقة الخليج العربي، التي تتميز في أيامنا بحراك ثقافي غير مسبوق، تختلف سياقات الوجوه الثلاثة وتعكس رهانات متمايزة. أما الحداثي فهو في الأساس وجه أدبي، ارتبط بالحركة النقدية، التي عرفتها المنطقة منذ منتصف السبعينيات. يتمحور مشروعه حول الدرس اللغوي– اللساني وأثره في الأجناس الأدبية، بيد أن هذا المشروع الذي لم يثر في بقية العالم العربي، أي إشكالات عقدية أو دينية، تحول إلى معترك عقدي حاد في المملكة العربية السعودية، وبدرجة أقل في بقية البلدان الخليجية. يؤرخ الناقد السعودي "عبد الله الغذامي" لهذه المعركة في كتابه "حكاية الحداثة"، مبيناً ما أثارته جهوده الأولى في التعريف بالمدرسة البنيوية والنقد التفكيكي (الذي سماه تشريحياً) من جدل واسع ورفض راديكالي لدى المؤسسة الدينية، التي وجدت من واجبها إضفاء مسحة قداسة على التراث الأدبي والبلاغي الوسيط، وكأنه من أساسيات الدين وثوابت العقيدة. كتبت وجوه إسلامية راديكالية ومتعصبة من نوع "عوض القرني" و"سفر الحوالي" في تكفير الحداثيين، واعتبروا أن تصوراتهم للقراءة والنص والخطاب تُفضي إلى نتائج خطيرة في العقيدة. وخلف هذا الموضوع النقدي – اللغوي، برزت إشكالات غير مباشرة، أهمها: إشكالية آليات وضوابط تأويل النص، وإشكالية العلاقة بالمرجع التراثي. أما الإشكالية الأولى، فتتصل وثيق الصلة بعمق الدعوة السلفية، التي كرست مفهوم "القراءة الاستنساخية "للنص (القرآن الكريم والسنة الشريفة)، أي اختراق الحجاب التأويلي الموروث للوصول مباشرة إلى كنه النص، كما فهمه "السلف الصالح" الذي عاصر التنزيل أو تلقى فهم الجيل الأول. من هنا، لا يمكن قبول فكرة "موت المؤلف" أو "التناص" ولانهائية المعنى وكثافة القراءة...فالمقاربة التأويلية التي تختزنها النظرية اللسانية – الأدبية الجديدة تلامس هذه المرتكزات المحورية في الدعوة السلفية. أما الإشكالية الثانية، فتتصل بمشاريع قراءة التراث الجديدة التي تبلورت منذ بداية الثمانينات (أهمها مشاريع الجابري وأركون وحنفي...)، التي استندت إلى نفس المدونة المنهجية، باعتبار أن كل مناهج العلوم اللسانية المعاصرة ومختلف الفلسفات الراهنة خرجت من "المنعرج اللغوي". ومع أن الحداثيين السعوديين لم يواكبوا بقوة هذه المشاريع التراثية، إلا أن أطروحاتهم بدت لخصومهم انجرافاً في مقاربات نظروا إليها خطأ كهدم للدين وتقويض لمرجعيته التراثية. تقلص زخم التيار الحداثي، وتحول رمزه الأول "الغذامي" من التبشير بالتفكيكية إلى "النقد الثقافي"، الذي كتب فيه أعماله الأخيرة. ومن الواضح أن مفهوم "الحداثة" اختزل في الساحة الخليجية في المناحي الأدبية والنقدية، ولم تبرز مقوماته الفلسفية والفكرية الثرية، التي ظهرت في ساحات عربية أخرى (لدى مفكري المغرب العربي خصوصاً). أما "الليبرالي" فهو الوجه الذي ارتبط بالتشابك مع تيارات الإسلام السياسي والنزعات السلفية المحافظة في محورين أساسيين هما: موضوعات الانفتاح الاجتماعي والحريات العامة، والعلاقة بالآخر(الغرب). في المحور الأول، اكتسى موضوع "ترقية المرأة" بما يرتبط به من متعلقات اجتماعية الجانب الأوفر من صراع الأفكار، واستخدم الاتجاهان الورقة الدينية ذاتها في المواجهة، في حين احتلت "حرية التعبير" وقيم "التحرر الفردي" المكانة الثانية من الاهتمام. في المحور الثاني، نلمس مركزية خطاب "حوار الحضارات" في أدبيات التيار الليبرالي، في الوقت الذي يلتزم التيار السلفي بعقيدة "الولاء والبراء" لتكريس القطيعة مع الآخر "غير المسلم". بيد أنه تتعين الإشارة إلى أن التيار الليبرالي السعودي استخدم في غالب الأحيان مسلك "الرمزية السردية" للتعبير عن أفكاره ونشرها، بدل التنظير الفكري، كما هو شأن رموز هذا التيار من نوع "غازي القصيبي" و"تركي الحمد". في حين تميز التيار الليبرالي في الكويت والبحرين بنزعته النقدية الصريحة التي اتخذت شكل المعالجات التأملية والفكرية (الربعي والبغدادي وخلدون النقيب وجابر الأنصاري...). ومن الملاحظ أن التيارين السلفي المحافظ و"الليبرالي" التحرري تنافسا في منطقة الخليج على توظيف "الدولة" في صراع الأفكار المحتدم بينهما، إما باستثمار طابعها المحافظ اجتماعياً أو استغلال اتجاهها للتحديث الذي يتقدم في الغالب على الحركية الاجتماعية نفسها. وفي الوقت الذي تستخدم مقولة "الليبرالية" في الخطاب الفكري المغربي بمفهوم الخيار الإيديولوجي في سياق الصراع مع تيارات اليسار (بهذا المعنى نقرأ السجال بين الجابري والعروي حول مدى ضرورة المرور بالمرحلة الليبرالية قبل تحقيق المجتمع الاشتراكي)، فإن مصطلح الليبرالية في الخطاب الخليجي يُستخدم مرادفاً للتحديث بمفهومه الأوسع. أما "التنويري" فهو نموذج فريد، يطلق في الساحة الخليجية على نمط من تيارات "الخطاب الإسلامي "تميز بخروجه عن العباءة السلفية (في مقابل اتجاه الصحوة الذي جمع بين العقيدة السلفية والمنزع الإخواني). يرفع هذا التيار شعار الانفتاح على الحداثة واستيعابها في التقليد الإسلامي ويتبنى مفهوم "الدولة المدنية". وقد تعرض هذا الاتجاه الذي يفتقر لعدة نظرية مكتملة لنقد شرس من التيارين السلفي والصحوي اللذين اعتبراه مجرد "علمانية ملتبسة". شكلت مقالة الكاتب السعودي إبراهيم السكران الصادرة السنة الماضية بعنوان "مآلات الخطاب المدني" محطة كبرى في هذا السجال (على الرغم أن الرجل عرف في بداية كتاباته تنويريا نقديا قبل أن ينقلب على زملائه). بيد أن عبارة "تنوير" المستخدمة هنا تبدو غريبة التوظيف، لكون هذه المقولة المحورية في الخطاب الفلسفي المعاصر تنتمي لسجل نظري وفكري غير قابل للاختزال في مطلب الإصلاح السياسي والانفتاح الاجتماعي. فالتنوير، كما عرفه الفيلسوف الألماني "كانط" هو عقلانية الرشد الإنساني وحق الاستخدام الحر للإرادة الذاتية في مقابل السلطتين الدينية والسياسية، وبذا هو أفق العصور الراهنة، وسؤاله هو الإشكال المحوري للفلسفة بصفتها تشخيصا للحاضر. الحداثة والليبرالية والتنوير هي المفاهيم المركزية في الفكر الحديث. ولئن استخدمت في السياق الخليجي بدلالات مغايرة، إلا أن الجدل الذي أثارته يشهد للحراك الثقافي في المنطقة بالحيوية والطرافة.