منذ تأكيد البرلمان البريطاني استقلال أستراليا قبل نحو 80 عاماً، وقبل ذلك ظهور الكومنولث الأسترالي باتحاد ست مستعمرات بريطانية في عام 1900، لم يحدث أن تولت امرأة قيادة أستراليا أو الاتحاد الأسترالي الفيدرالي. لكن ها هي جوليا غيلارد قد أصبحت أول رئيسة للحكومة في أستراليا خلفاً لـ"كيفن راد" الذي أقصته حركة تمرد داخل "حزب العمال" الحاكم. واللافت أن هذا التغيير في صفوف العماليين، والذي سقط بموجبه "راد" وصعدت غيلارد إلى سدة السلطة، تم على نحو هادئ للغاية وبلا ضجيج، كما بدا مفاجئاً للكثيرين بمن فيهم خبراء السياسة الأسترالية. ومع ذلك فقد لاحت في الأفق خلال الأشهر الأخيرة مقدمات لافتة؛ منها تراجع شعبية "راد" جراء عدد من الخيارات السياسية العمالية، مثل التخلي عن فرض ضريبة الكربون في وقت تسعى فيه كانبيرا إلى تصدر جهود مكافحة التغير المناخي، إضافة إلى تخليه عن مشروع فرض ضريبة جديدة على الأرباح الطائلة لشركات المناجم. ومنها أيضاً صعود شعبية غيلارد نفسها، والتي باتت ينظر إليها في البرلمان ووسائل الإعلام على أنها واحدة من أساتذة الأداء الحكومي. لم تصعد غيلارد من فراغ ودون سابق نجاحات، فهي ناشطة طلابية سابقة، ومحامية وسياسية معروفة، وعضو قيادي في حزب العمل الحاكم، كما تقلدت حقائب عديدة في الحكومات التي شكلها رود، وتولت منصب نائب رئيس الوزراء، وظلت مخلصة لرود إلى أن قررت أخيراً "عدم البقاء مكتوفة اليدين... فهناك حكومة جيدة تتوه"! فمن هي قائدة "الانقلاب" الحكومي في أستراليا؟ إذا كانت غيلارد أول امرأة تترأس الجهاز التنفيذي الأسترالي، فهي أيضاً أول شخص مولود خارج أستراليا يقود حكومة كانبيرا. ففي مقاطعة ويلز ببريطانيا، ولدت جوليا أيلين غيلارد عام 1961، وكانت الابنة الثانية لـ"جون"، ضابط الشرطة المنحدر من عائلة يشتغل أفرادها عمالا في مناجم الفحم الحجري، وزوجته "موارا غيلارد" التي كانت طباخة لدى هيئة تعنى بمتقاعدي الجيش. ولا تكاد "جوليا" تتذكر شيئاً من حياتها في بريطانيا، لكن بسبب اعتلال صحتها، حيث كانت تعاني من مرض في الجهاز التنفسي، نصح الأطباء والديها بالذهاب إلى بلد أكثر دفئاً، فقررا الهجرة مع طفلتيهما، "جوليا" و"ايليون"، إلى "أديليد" عاصمة أستراليا الجنوبية، أكثر ولايات أستراليا الست جفافاً. وفي "أديليد"، عاشت غيلارد طفولتها، فدرست المرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم التحقت بـ"جامعة أديليد" في عام 1978، وانضمت إلى النادي الطلابي لحزب العمال الأسترالي، وناضلت مع أعضائه ضد قرارات حكومية بتخفيض نصيب التعليم من الميزانية العامة. وبعد تخرجها في عام 1983، انتقلت إلى "ميلبورن"، عاصمة ولاية فيكتوريا، لتحصل من جامعتها على شهادتين في الفنون والقانون. وخلال دراستها في "جامعة ميلبورن" أصبحت نائبة لرئيس "الاتحاد الأسترالي للطلبة"، أحد أبرز التجمعات الطلابية في أستراليا، ثم ترأسته في عام 1985 لتصبح ثاني فتاة تتولى قيادته. أما المسيرة المهنية لغيلارد فبدأت في عام 1987 بانضمامها إلى مكتب المحاماة الشهير "سلاتر آند غوردون" المعروف بدفاعه عن قضايا الشغل والنقابات العمالية، ثم أصبحت أحد المساهمين الأساسيين فيه بداية من عام 1990، وكان عمرها لا يتجاوز التاسعة والعشرين. وبالتوازي مع نشاطها الطلابي وعملها في مجال المحاماة، ظلت غيلارد عضواً نشطاً في "حزب العمل"، وقد أصبحت مندوباً إلى مؤتمره الوطني على مستوى فيكتوريا في عام 1983، كما نشطت في عدة هيئات يسارية بعضها مرتبط بالحزب وبعضها مستقل عنه، وشاركت في منظمات للدفاع عن حقوق العمال والمرأة والسكان الأصليين. وبين عامي 1995 و1998 تولت إدارة ديوان "جون بريمبي" حين كان زعيماً للمعارضة في ظل الحكومة الليبرالية برئاسة "جيف كينيت" في ولاية فيكتوريا. وتم تكليفها بتنفيذ خطة التمييز الإيجابي لصالح المرأة على مستوى الحزب في فيكتوريا، استجابة للأهداف التي تبناها مؤتمره لعام 1994، والتي طالبت بتمكين المرأة من تولي 35 في المئة من مقاعد الحزب في جميع الانتخابات بحلول عام 2002. وبعد فوز غيلارد بمقعد في البرلمان على قوائم الحزب عن دائرة "واللو" في انتخابات عام 1998، قامت بنشاطات كبيرة داخل هيئات المعارضة البرلمانية، وكانت صوتاً قوياً وجريئاً في الجهاز التشريعي. وتولت حقيبة الصحة في ديوان "مارك لاثام" حين كان قائداً للمعارضة العمالية عقب انتخابات 2004. ثم احتفظت بموقعها تحت قيادة "كيم بيزلاي"، قبل أن ترتقي إلى الموقع الثاني في "حزب العمال" على المستوى الاتحادي عقب انتخاب "كيفن رود" رئيساً للحزب. ولما استطاع العماليون وضع حد لعقد كامل أمضاه المحافظ "جون هوارد" في السلطة، بفوزهم في انتخابات نوفمبر 2007، أصبحت السياسية والمحامية "الويلزية" وزيرة للتربية، فوزيرة للشغل والشؤون الاجتماعية، ثم وزيرة للإدماج، قبل أن تصبح نائبة لرئيس الوزراء في آخر حكومة شكلها "رود". وخلال ذلك أثبتت نفسها كمهندسة لمشروع الإصلاح التعليمي وتحسين رواتب العمال. لكن صورة نشرت لغيلارد مؤخراً أثارت انتقاد المحافظين الأستراليين الذين رأوا فيها دعوة غير مباشرة إلى "العقم الاختياري"، خاصة أن غيلارد أول شخص غير متزوج يقود حكومة أستراليا. لكن غيلارد قالت من قبل إن العمل السياسي أهم في حياتها من الزواج والإنجاب، دون أن تعتبر ذلك الخيار الشخصي قاعدة عامة. أما العام حقاً فهو الطريقة التي ستعتمدها لإدارة الوضع الأسترالي بتحدياته وانتظاراته، حيث يتوقع منها الاستمرار في نهج سياسات سلفها، دون التفريط في إنقاذ شعبية الحزب التي أصبحت مهددة قبيل الانتخابات القادمة. هذا وقد أعلنت غيلارد بُعيدَ تنصيبها، يوم الخميس الماضي، نيتها الطلب إلى الحاكم العام لأستراليا الدعوة لإجراء انتخابات "تمكن الأستراليين من حقهم الأساسي في اختيار رئيس وزرائهم". لكنها قبل ذلك وبعده، هي بحاجة إلى الحفاظ على وحدة الحزب التي أظهرها نوابه خلال انتخابهم لها، وذلك للفوز بدعم فصائله المختلفة، لكن دون محاولة الاتجاه به كثيراً إلى اليسار، خلافاً لرغبتها المعروفة. محمد ولد المنى