قبل بضعة سنين، استغرق العلماء عشر سنوات أنفقوا خلالها ميزانية تقارب الثلاثة مليارات دولار كي يتمكنوا من فك جميع رموز التركيبة الوراثية للإنسان لأول مرة، وهو المشروع الذي عرف حينها بمشروع الجينوم البشري، وشارك فيه ألفان من العلماء من مختلف دول العالم. وقد اعتبر الكثيرون حينها أن نجاح هذا المشروع مماثل لفك رموز كتاب الحياة (Book of Life)، على أساس أن الشفرة الوراثية بمكوناتها من عشرين ألف جين وراثي تحتوي على جميع التعليمات التي تتحكم في الجوانب والمظاهر المختلفة للحياة بدءاً من العلميات الحيوية الدقيقة داخل نواة الخلية، وحتى الشكل والمظهر الخارجي للكائن الحي، مرورا باحتمالات إصابته بالأمراض المختلفة، وقدرته على الشفاء منها. ومثل ذلك الاختراق العلمي يزيد في أهميته بقدر هائل على الإنجاز البشري الآخر المتمثل في الهبوط على القمر، ومشي الإنسان على سطحه. فبلوغ الإنسان سطح القمر منذ أكثر من أربعة عقود لم يترتب عنه الكثير من النتائج الملموسة على صعيد التطبيقات اليومية في الحياة البشرية. أما إنجاز مشروع الجينوم البشري، فقد زاد من إدراكنا للطبيعة الوراثية لحفنة قليلة من الأمراض عام 2000 ، إلى فهم كامل لطبيعة أكثر من 100 مرض حاليّاً، وهو العدد الذي يتوقع له أن يتضاعف خلال السنوات القليلة القادمة. والآن، وبعد عقد واحد فقط من الزمان، وكنتيجة للاختراقات الهائلة في مجال التكنولوجيا الحيوية، أصبح من الممكن تحقيق الهدف نفسه، والحصول على ذات النتيجة، في فترة زمنية لا تتعدى الثلاثة أشهر، وبتكلفة لا تزيد عن عشرة آلاف دولار. ويتوقع البعض أنه سيصبح من الممكن في المستقبل القريب إنجاز المهمة نفسها في وقت أقصر بكثير، وبتكلفة لا تزيد عن ألف دولار للشخص الواحد. وهو ما يعني أنه سيصبح من الممكن قريباً تحليل الشفرة الوراثية لكل مريض، بما في ذلك الجينات الخاصة والمميزة، كجزء من الرعاية الطبية الاعتيادية، مثله مثل العديد من التحاليل والفحوص التي يخضع لها المرضى حاليّاً بشكل روتيني. وهو ما سيسمح للأطباء بالتنبؤ بالأمراض التي يمكن أن يصاب بها الشخص في المستقبل، واختيار أفضل سبل العلاج حسب التركيبة الوراثية، وتحديد الجرعة المناسبة بشكل شخصي، بدلا من الأسلوب المتبع حاليّاً والمعتمد على علاج واحد، وجرعة ثابتة للجميع. وتحل هذا الأسبوع، الذكرى العاشرة لاكتمال مشروع الجينوم البشري، حين أعلن الرئيس الأميركي الأسبق "بيل كلينتون" في السادس والعشرين من شهر يونيو عام 2000 من البيت الأبيض، وسط جمع غفير من العلماء شاركوا في المشروع، أن الجنس البشري برمته أصبح على عتبة عصر جديد من الاختراقات الطبية بشكل غير مسبوق. وبالتزامن مع هذه الذكرى شرع أحد المستشفيات البريطانية المتخصصة في أمراض القلب (Royal Brompton Hospital)، في تحليل الشفرة الوراثية لعشرة آلاف مريض مصابين بأمراض في القلب بهدف العثور على رابطة أو علاقة مباشرة بين التركيبة الوراثية للأشخاص، واحتمال إصابتهم بأمراض القلب والشرايين، مثل الذبحة الصدرية، أو السكتة الدماغية، وربما حتى تحديد نوعية المرض الذي يمكن أن يصاب به الشخص في المستقبل، والعمر الذي سيتعرض فيه للمرض، ومدى حدته، وأفضل سبل العلاج حينها. وهذا قد يكون بمثابة بزوغ لفجر الطب الشخصي، أي الطب الذي يأخذ في الاعتبار الاختلافات الوراثية بين المرضى، وما تؤدي إليه هذه الاختلافات، ليس فقط على صعيد احتمالات الإصابة بالأمراض المختلفة، بل أيضاً على صعيد الاستجابة المختلفة بين الأشخاص لنفس العلاج. ومن ضمن الحقائق اليومية المعروفة في الممارسات الطبية الحديثة أن ذات العقار مثلا قد يسبب أعراضاً جانبية مختلفة بين المرضى، إلى درجة أن هذه الأعراض قد تضطر الطبيب المعالج لوقف العلاج، على رغم أن غالبية المرضى الآخرين لم يتعرضوا لمضاعفات جانبية بهذه الشدة، أو اختلفت الأعراض الجانبية التي تعرضوا لها من الأساس. ويفسر الأطباء مثل هذا التباين بأنه يعود إلى اختلاف التركيبة الوراثية للمرضى، وهو الاختلاف نفسه الذي يشك الكثيرون في أنه يحدد مدى فعالية وكفاءة العلاج. فمن الملاحظ حاليّاً أن بعض المرضى لا تتحسن حالتهم الصحية، ولا يستجيب مرضهم لنفس العلاج الذي نجح مع الغالبية من المرضى في تحسين حالتهم الصحية، وفي تخفيف وطأة أعراض وعلامات مرضهم. ومثل هذا المنطق ليس من الغريب أو المستبعد فإذا كنا نختلف في الطول، ولون الشعر، ولون العينين، وبقية الصفات الجسدية بشكل كبير، وحتى في حاسة التذوق والشم، فلماذا نتوقع أن نستجيب جميعاً بنفس الشكل للمادة الكيميائية التي يتضمنها العقار أو الدواء المستخدم في العلاج! وعلى رغم اقتناع أفراد المجتمع الطبي التام بهذا المنهج في التفكير، لم يكن من الممكن تحقيقه في الواقع العلمي للممارسات الطبية اليومية. فكما ذكرنا، استغرق فك التركيبة الوراثية للإنسان قبل عشر سنوات فقط، جهود ألفين من العلماء، وميزانية بمليارات الدولارات. وحتى وقتنا هذا، لا زال فك الشفرة الوراثية للمريض يستغرق عدة شهور، وبتكلفة تبلغ عشرة آلاف دولار، وهي عوائق تمنع من تعميم فحص الشفرة الوراثية لجميع المرضى، وتضمينه في الفحوص الطبية الروتينية. ولكن، بالنظر إلى الإيقاع الذي تطورت به الاختراقات العلمية في مجال التكنولوجيا الحيوية خلال السنوات القليلة الماضية، وتسارع خطى الاكتشافات العلمية يوماً بعد يوم، سيصبح من الممكن تحقيق هذا الهدف في غضون السنوات القليلة القادمة. د. أكمل عبد الحكيم