لست من الذين يصدمون بسهولة. فقد قضيت سنوات طويلة من العمل في مثل هذه الأمور، ورأيت في حياتي الطويلة ما يقيني سرعة الانفعال والغضب من السلوكيات والأفعال اللاإنسانية وغير اللائقة. غير أن قصتين أودعتا على مكتبي مؤخراً، شعرت أنهما تثيران الغثيان والخطر إلى حد اضطرني للكتابة عنهما. وتظهر كلتاهما كيف تجرؤ بعض القوى الشرق أوسطية على الإساءة للموتى والأحياء على حد سواء. تتضمن القصة الأولى الأساليب التي اعتاد عليها جهاز "الموساد" الإسرائيلي في تأمين وثائق السفر المزورة لعملائه الذين شاركوا في جريمة اغتيال محمود المبحوح، عضو حركة "حماس"، في دبي، بتاريخ التاسع عشر من يناير 2010. ويذكر أن القانون الألماني يمنح الجنسية وجواز السفر لأحفاد المواطنين اليهود الذين أرغموا على الفرار من ألمانيا قبل نشوب الحرب العالمية الثانية وخلالها، هرباً من فظائع ومحارق "الهولوكوست" التي استهدفت اليهود أيام النازية. استغلالاً لهذا الحق المنصوص عليه في القانون الألماني، ادعى أحد عملاء "الموساد" باسم "مايكل بودنهايمر"، أنه حفيد أحد اليهود الناجين من الهولوكوست، وحصل على جواز سفر ألماني دخل به إلى دولة الإمارات، حيث كان أحد المشاركين في جريمة اغتيال المبحوح. وقبل عدة أسابيع من كشف النقاب عن هذه الحقيقة، نشرت صحيفة "جورازيلوم بوست" تقريراً جاء فيه أن الشخص الحقيقي الذي يحمل اسم "مايكل بودنهايمر"، حاخام أرثوذكسي هاجر من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، وزعم أن هويته قد سرقت بواسطة عميل "الموساد"، وأنه لم يطلب مطلقاً الحصول على جواز سفر ألماني ولم يحصل عليه قط. ومن الطبيعي أن يقلق بودنهايمر وأفراد عائلته من ورود اسمه في قائمة المتهمين بارتكاب جريمة قتل. ويجب هنا التنبيه إلى خطورة السلوك الإسرائيلي في هذا الأمر من ناحيتين: أولهما تعريض شخصية أوبنهايمر الحقيقية للخطر، وثانيهما إثارة الشكوك في فئة اجتماعية بأكملها، ألا وهي أحفاد اليهود الفارين من جحيم الهولوكوست، والذين سبق أن طالبوا بالحصول على الجنسية الألمانية، أو ربما يطالبون بها في المستقبل. وبالنتيجة فقد أساءت إسرائيل استغلال موتى الهولوكوست من اليهود وأحفاد من نجوا منهم على حد سواء. أما القصة الثانية، فكشف عنها النقاب مؤخراً بما نشر من تقارير وأنباء صحفية عن مقتل ناشطة إيرانية أثناء المظاهرات التي شهدتها طهران العام الماضي احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية. وسرعان ما تحولت الناشطة القتيلة، "ندى آغا سلطان"، إلى شهيدة ورمز لـ"الثورة الخضراء". فقد ظهرت صورتها عبر شبكتي "بي بي سي" و"سي إن إن"، كما نشرت في مختلف الصحف العالمية مصحوبة بعبارة "الملاك الإيراني". وسرعان ما التقطت "صوت أميركا" تلك الصورة وانتشرت منها إلى إيران حيث طبعت على الملصقات الحائطية والقمصان وغيرها. ولا جدال في اغتيال الناشطة الإيرانية "ندى سلطان" أثناء مظاهرات الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية. بيد أن الصورة التي شهدت انتشاراً واسع النطاق في الصحافة العالمية ليست صورتها. والحقيقة أن الصحافة غير المسؤولة التقطت من موقع "فيس بوك" صورة امرأة أخرى تدعى "ندى سلطاني"، وهي شابة إيرانية لطيفة للغاية وتعمل مدرسة للأدب الإنجليزي في جامعة طهران. ورغم الخطأ الواضح في استخدام الصورة، فقد ذاع تداولها وانتشر في جميع وسائل الصحافة العالمية. ويذكر أن مقالاً نشر بالموقع الإلكتروني لمجلة Foreign Policy في الأسبوع الماضي، لم يكتف بتعقب الإهمال الصحفي الذي نجم عنه ترويج الصورة الخاطئة غير المطابقة للشخصية المقصودة فحسب، بل اهتم كذلك بالعواقب والتداعيات المترتبة عن ذلك الخطأ على شخصية ندى سلطاني، التي حولها الإهمال الصحفي إلى ضحية لذلك الخطأ. فبينما سعت ندى لاستعادة هويتها وصورتها، لم يتردد النظام الحاكم في استغلال الخطأ الصحفي بالقول إن "ندى" لا تزال حية ترزق، وأن كل ما نشره الإعلام الغربي ليس سوى تلفيق تآمري لا أساس له من الصحة. ولم تستسلم ندى بل حاولت استرداد هويتها الحقيقية بالمطالبة بإزالة صورتها من المواقع الإلكترونية التي بثت فيها. لكنها تلقت تهديدات وردود مسيئة من قبل الناشطين المعارضين للنظام، اتهموها فيها بأنها تسعى إلى تجريد نشاطهم المعارض من وجه "الملاك لإيراني" الذي تحول إلى أداة رافعة عالمياً لحركتهم الثورية. ولم تنته القصة المحزنة عند هذا الحد كما قد يتصور البعض. فعندما حاولت عائلة الناشطة القتيلة "ندى سلطان" استبدال الصورة الخاطئة بصورة القتيلة الحقيقية، لم تجد تلك المحاولة نفعاً، ولم تستطع الحقيقة أن تعوض عن البريق الذي حققته الصورة الزائفة! وبسبب الخوف من الضغوط، والشعور بالإحباط إزاء فقدانها لهويتها، اضطرت ندى إلى مغادرة بلادها والفرار إلى ألمانيا حيث تقيم اليوم. وبقدر ما تثير هاتان القصتان الحزن والقلق، بقدر ما يثير الشعور نفسه حجم الاهتمام الذي حظيتا به هنا في الولايات المتحدة. فباستثناء المقال المذكور الذي نشرته مجلة Foreign Policy، لم تحظ قصة سرقة هوية ندى بأي اهتمام يذكر، بينما لم تحظ قصة أوبنهايمر بأي تغطية على الإطلاق. والدرس الرئيسي الذي نستخلصه من هاتين القصتين هو أنه عندما تسيء الحكومات والصحافة والحركات المعارضة استغلال الموتى والأحياء على حد سواء، فسيتعين على الأبرياء دفع الثمن غالياً ومكلفاً كما رأينا.