كانت - وربما لا تزال – الدول النامية تنظر إلى إنتاج وتصنيع المركبات – سواء كلياً أو جزئياً - كإنجاز عظيم، بل كدليل وبرهان على اجتيازها المرحلة الزراعية إلى المرحلة الصناعية. وكلنا يذكر أن مصر الناصرية في أوج بروزها عمدت إلى الترويج لنفسها كبلد صناعي متفوق عبر طرح نسختين من سيارتي "فيات" الإيطالية، و"برينز" الألمانية تحت مسمى "نصر" و "رمسيس" على التوالي. وعلى المنوال نفسه، ولكن انطلاقاً من قاعدة صناعية أكثر صلابة واقتداراً، طرحت دول أخرى سيارات للركاب أو للنقل أو للشحن. نذكر منها إيران التي طرحت في عهد الشاه سيارات "بيكان"، وإندونيسيا التي صنعت سيارة "تيمور"، وماليزيا التي سوقت بنجاح سيارة "بروتون". وكانت هناك ، بطبيعة الحال، دول عمدت إلى عملية تجميع مكونات السيارات اليابانية والأميركية والأوروبية داخل أراضيها عبر استثمارات مشتركة. من هذه الدول تايلاند، وتايوان، وكوريا الجنوبية، علماً بأن الأخيرة بزت تايلاند وتايوان، وصارت اليوم علماً في صناعة المركبات بمختلف أشكالها وأحجامها. لكن في سياق هذا الحديث، لا بد من الوقوف ملياً أمام حقيقة بروز دولتين آسيويتين كبيرتين في عالم صناعة المركبات، ونعني بهما الهند والصين اللتين صارتا في السنوات الأخيرة منافستين قويتين لكبار صناع ومنتجي المركبات في العالم. وإذا كانت الهند قد سبقت الصين بسنوات طويلة في إنتاج وتصدير الشاحنات وحافلات الركاب عبر شركتها الرائدة "تاتا"، ثم أتبعت ذلك مؤخراً بطرح سيارات الركاب الصغيرة ذات الأسعار المنخفضة كي تكون في متناول الملايين من سكانها من الطبقة الوسطى المتنامية عدداً، ونقصد بها سيارة "نانو"، التي لا يزيد سعرها عن 2500 دولار، فإن قطاع صناعة السيارات في الصين باتت تشهد انتعاشا ملحوظاً لم يسبق له مثيل، وإنْ قيل إن ما ينتجه هذا العملاق من المركبات رديء الصنع، أو يخلو من وسائل الأمان والسلامة ذات المعايير الدولية، أو أن تصاميمها مسروقة من تصاميم السيارات اليابانية والكورية والأوروبية (على نحو ما قيل عن سيارة "كيو كيو" الصينية الصغيرة التي وجهت أصابع الاتهام إلى منتجها لسرقته أساليب إنتاج يابانية وتصاميم أميركية لسيارة "شيفروليه سبارك". وتـُرجع الزميلة الهندية "براكريتي جوبتا" في تحقيق مطول كتبته أخيرا، أسباب صعود الهند المذهل في صناعة المركبات – رغم وجودها حاليا في المركز السابع عالميا – وقدرتها على إنتاج سيارة واحدة في كل دقيقة (أنتجت في عام 2009 وحده 2.6 مليون سيارة) إلى عوامل عديدة مثل: الإمكانات الهندسية القوية، والخبرة المتراكمة، ورخص الأيدي الفنية العاملة، والتوسع الكبير في استثمارات الشركات الأجنبية المصنعة للمركبات مثل "هيونداي" الكورية، و"نيسان" و"تويوتا" و"سوزوكي" و"هوندا" اليابانية، و"فولكس فاجن" الألمانية، و"رينو" الفرنسية، و"جنرال موتورز" الأميركية. هذا ناهيك عن عامل مهم آخر هو الخبرات والإمكانيات التي اكتسبتها الهند كنتيجة لاستحواذها في عام 2008 على مصانع سيارات "جاجوار" و"لاندروفر" البريطانية، من مالكها السابق "فورد موتورز". غير أن أحد العوامل القوية الأخرى، من وجهة نظري، هو الطلب المتزايد في السوق الهندية على شراء المركبات الخاصة، في ظل تحسن مستويات الدخول الفردية في العقدين الأخيرين. وربما ما يؤكد هذا العامل هو التوسع الهائل من قبل منتجي المركبات العالمية في استثماراتهم داخل الهند، وجهودهم من أجل تعزيز تواجدهم داخل السوق الهندية بشتى الوسائل. علاوة على هذا، يمكن أن نسوق دليلاً آخر هو سعي الصين الحثيث (عبر شركاتها المعروفة مثل: "سايك"، و"فوتون"، و"فاو"، و"تشيري"، و"جيلي") في العامين الأخيرين لإيجاد شركاء عالميين أو شركاء هنود من أجل إنتاج مركبات صغيرة، منخفضة التكاليف، وذات قدرة على توفير الوقود، خصيصاً لتصديرها إلى الأسواق الهندية، وكي تنافس سيارات "نانو" الهندية لجهة الأسعار. ويقال في هذا السياق إن هدف الصين النهائي يتجاوز تصدير النوع الأخير من المركبات إلى الهند، وبيعها هناك بسعر 2250 دولارا، بمعنى أنه يشمل أيضاً تصدير الشاحنات والحافلات وسيارات الشباب الرياضية في وقت لاحق. والمعروف أن الصين طبقاً لتحقيق الزميلة "جوبتا" قد تخطت في عام 2006 اليابان (صاحبة المركز الثاني عالميًا في إنتاج المركبات)، كما تخطت في العام الماضي الولايات المتحدة الأميركية (صاحبة المركز الأول عالمياً)، وصارت تنتج كل أنواع المركبات بدءاً بالحافلات وسيارات الركاب الصغيرة، وانتهاء بالشاحنات وسيارات الشحن والنقل الكبيرة. كما أنها في محاولة لتقليد الهنود استحوذت على ملكية شركة "فولفو" السويدية، شراء من شركة "فورد" الأميركية. إضافة إلى دخول إحدى شركاتها المعروفة، وهي "شنغهاي أوتوموتيف كار" في العام الماضي في شراكة مع "جنرال موتورز" الأميركية، بهدف إنتاج المركبات التجارية الرخيصة. لكن ماذا عن إنتاج السيارات الكهربائية في عالم يعمل المستحيل من أجل المحافظة على البيئة ومحاربة الانبعاث الحراري؟ هنا أيضاً نجد المنافسة محتدة بين العملاقين الآسيويين الصناعيين. فلئن كانت الهند دشنت في العام المنصرم سيارتها الكهربائية الأكثر مبيعاً في العالم والمعروفة باسم "ريفا"، فإن الصين تحاول اليوم الرد عبر تطوير سيارة كهربائية أقل سعراً، وذلك عبر تعاون إحدى شركاتها الرائدة في صناعة البطاريات وهي "بي. واي. دي" مع شركة "ديملر" الألمانية المعروفة بإنتاج سيارات "المرسيدس" الفارهة. لكن الصين، التي خصصت حكومتها مليارات الدولارات من أجل هدف تسيير 500 ألف سيارة كهربائية على طرقاتها بحلول عام 2012 ، تجد نفسها في الوقت ذاته أمام منافسة حامية الوطيس من قبل شركات المركبات التايوانية. فتايوان ربما كان البلد الوحيد في العالم الذي استطاع حتى الآن أن ينتج مركبة تتسع لسبعة أشخاص، وتسير كاملًا بالكهرباء - أي دون أن تنفث في الهواء أية مواد مضرة بالبيئة -وذلك عبر شراكة وطيدة مع شركة "تيسلا" الأميركية للمركبات. هذا علماً بأن هذه المركبة المسماة "لوكسغين" عـُرضت في ديسمبر الماضي في معرض دبي العالمي للسيارات، ولفتت الأنظار برفاهيتها، وتصميمها الجذاب، وقدرة منتجيها على صناعة أعداد هائلة منها، ناهيك عن صناعة نحو 70 بالمئة من مكوناتها الرئيسية من قبل شركات تايوانية رائدة.