في الوقت الذي بدأ فيه قطاع الأعمال الهندي توسيع نشاطاته، انطلقت العديد من الشركات نحو فتح مقرات جديدة لها خارج المدن الكبرى متجهة نحو المناطق الريفية حيث التكاليف منخفضة، وربما أيضاً القليل من العلاقات العاطفية التي تشجع الآباء المحافظين في الأرياف على السماح لبناتهم وأبنائهم بالعمل حتى ساعة متأخرة من الليل، لا سيما في ظل القيم الجديدة الوافدة، فضلاً عن التطلعات المعاصرة التي تدخلها الشركات إلى القرى الأكثر محافظة في الهند. ومن هؤلاء الشباب الذين يستفيدون من استثمار الشركات داخل قراهم، "بهاردواج" الذي لم يستخدم قط في حياته جهاز كمبيوتر قبل حصوله على وظيفة مدخل بيانات في شركة هندية متخصصة في مجال التعهيد بولاية "كراناتكا" الهندية. واليوم يمضي معظم وقته منكباً على جهاز الكمبيوتر بمقر الشركة بأحد المدارس التي حولت إلى قاعة كبيرة حيث يصطف باقي الموظفين لإدخال البيانات، ومع أن والدته كانت متخوفة في البداية على ابنها الوحيد من أن يلتقي بإحدى النساء "السيئات"، اللواتي تظهرهن وسائل الإعلام المرئية، إلا أنها سرعان ما غيرت رأيها عندما تلقى ابنها راتبه الأول الذي يفوق ما يكسبه والداه، فضلا عن قماش "الصاري" الذي قدمه لها كهدية في عيد ميلادها؛ وفيما يتوسع قطاع التعهيد في الهند ويغزو أسواقاً جديدة بدأت أذرعه تمتد خارج المدن الكبيرة مثل بانجالور وحيدرآباد باحثة عن فرصة أقل تكلفة في القرى والبلدات الصغيرة مثل "باجيبالي"، وبالطبع مع هذه الشركات الجديدة تأتي العديد من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، لتترك أثرها على الأهالي، وتدخل قيم الطبقة الوسطى إلى المعاقل التقليدية والمحافظة في المناطق الداخلية بالهند. وعن هذا الموضوع يقول "نادو رام"، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة "جواهرلال نهرو" بنيودلهي: "نحن مازلنا ملتصقين بالتقاليد وفي الوقت نفسه نحث الخطا سريعاً نحو الحداثة، بحيث تتغير القيم بسرعة مع تولي الشباب قيادة البلاد ودخول القيم العصرية". وفي بلدة "باجيبالي" التي تضم مقراً لإحدى شركات إدخال البيانات يعمل 140 شاباً جميعهم في العشرينات من أعمارهم، وهي البلدة التي لا يتعدى عدد سكانها 25 ألف نسمة وتبعد بحوالي ساعتين شمالي بانجالور، ويمتد دوام هؤلاء الشباب من 30:7 صباحاً إلى 6 مساء يقومون فيه بإدخال بيانات إحدى الشركات الأميركية، فضلا عن متعاملين محليين. وبالنظر إلى الكلفة المنخفضة، فقد تناسلت تلك المراكز ليبلغ عددها أكثر من عشرين خلال السنوات الأخيرة وأكثر من 180 في المراكز الحضرية الأكبر. وبالنسبة لشركة "رورال شورز" التي تتخذ من بانجالور مقراً لها، فقد افتتحت ستة مقرات في البلدات الصغيرة بما فيها "باجيبالي"، بل تعتزم توسيع نشاطها بفتح عدد أكبر من المراكز يصل إلى 30 في أفق 2013 و500 بحلول 2017، وقد اعتمد الازدهار الكبير الذي شهده قطاع تكنولوجيا المعلومات في الهند خلال السنوات الأخيرة على الشباب الذين انتقلوا من القرى والأرياف البعيدة إلى المدن الكبرى حيث الشركات والفرص، لكن العديد من هؤلاء واجهوا مصاعب مرتبطة بصعوبة التأقلم والحنين إلى قراهم، وهو ما يوضحه "ناجيش هيدج"، مساعد مدير تحرير صحيفة "برجافاني" بانجالور قائلاً: "العديد من الشباب القادم من القرى بحثاً عن العمل في المدينة لا يعرف طريقة التصرف السليمة، ولا كيف التعامل مع الإشارات المرورية، فقد جاءوا مدفوعين بثقافة التلفزيون، التي لا تظهر سوى الأضواء وألق المدينة". لذا يأتي التوجه الحالي للشركات بفتح مقرات لها في القرى ليخفف من هذه المشاكل ويقرب فرص العمل من محل إقامة الشباب دون الحاجة إلى الهجرة والشعور بالاغتراب، الأمر الذي تؤكده "بي سيرينفاس"، ذات 25 عاما بقولها: "يشعر والدي بالطمأنينة لأني أعمل في القرية وليس في بانجالور، فأنا أرجع إلى بيتي كل مساء كما يحترمني الجميع في قريتي"، وفي مجتمع محافظ يرفض العلاقات قبل الزواج، وتنتشر فيه الزيجات المنظمة مسبقاً اكتسبت مراكز الاتصال سمعة سيئة باعتبارها المكان الذي يختلط فيه الرجال بالنساء. ويظلون حتى ساعات متأخرة من الليل، وفي إحدى الحوادث التي تدل على حساسية الموضوع بالنسبة للعائلات الهندية المحافظة في القرى، أقدم شاب على قتل خطيبته التي تعرف عليها في أحد المراكز لأن أهله رفضوها كزوجة بسبب انتمائها إلى طبقة أدنى. لذا تحاول الشركات الهندية التي تختار الاستثمار في البلدات الصغيرة مثل شركة "رورال شورز" توخي الحذر واحترام الحساسيات، بحيث يلتقي مديرو الشركات مع أعيان القرى والمناطق الريفية عند افتتاح كل مركز ويدعونهم إلى زيارته للتأكد من احترام التقاليد، هذا بالإضافة إلى اقتصار دوام النساء على الفترة النهارية في حين يعمل الرجال ليلا. لكن حتى في ظل هذا الاحترام الذي تحرص الشركات على إظهاره وعدم انتهاك المعايير الأخلاقية الصارمة في الأرياف، بدأ الأهالي في التغير، بحيث أصبح السكان أكثر انفتاحاً في نظرتهم للحياة، فضلا عن تحسن التواصل بين الأجيال بفضل النجاح الذي حققه الشباب وقدرتهم على إعالة أنفسهم ومساعدة أسرهم مالياً. وفيما أصبح الذكور من الشباب أكثر حرصاً على اختيار زوجاتهم اللواتي غالباً ما يشترط فيهن الجمال والذكاء، أصبحت الإناث أيضاً أكثر قدرة على التحكم في مصيرهن ورفض الزيجات المفروضة عليهن من آبائهن، وهي التغييرات التي لم تكن مقبولة في المجتمع الهندي حيث الإناث يخضعن كلياً لسلطة العائلة، ولا مجال لهن للاعتراض، لا سيما فيما يتعلق بالزواج. مارك ماجنيير-الهند ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي إنترناشونال"